إسرائيل وروسيا.. بين التراشق بالاتهامات وتحالف المصالح

إسرائيل وروسيا.. بين التراشق بالاتهامات وتحالف المصالح

أثارت تصريحات وزارة الخارجية الروسية بأنه كان لهتلر “دم يهودي”، مثله مثل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، استنكاراً في إسرائيل. ولكن بقدر ما كانت الأزمة بين موسكو وتل أبيب غير متوقعة، بقدر ما تم تجاوزها بسرعة، مما يؤكد متانة العلاقات بين العاصمتين.

  • * *
    فجأة، تغيرت اللغة بين روسيا وإسرائيل، وكانت موسكو هي التي بادرت بالهجوم. بدأ ذلك في الأول من أيار (مايو) 2022. فخلال مقابلة أجرتها قناة تلفزيونية إيطالية حول رغبة روسيا في “استئصال النازية” من أوكرانيا -والحال أن رئيسها فولوديمير زيلينسكي يهودي- أجاب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن الأمرين لا يتناقضان: “ما الفرق حتى إذا كان زيلينسكي يهوديًا؟ لقد كان لأدولف هتلر أيضاً دم يهودي”. وأضاف: “اليهود المستنيرون يعرفون جيدًا أن أكثر المعادين للسامية حماسة هم عادة يهود”.
    وقد أثار ذلك التصريح موجة غضب في إسرائيل ولدى الجاليات اليهودية حول العالم. وكانت نظرية المؤامرة التي تفيد بأن هتلر كان في الواقع يهوديًا قد ظهرت مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشرتها مجموعات اليمين المتطرف بشكل يكاد يكون منهجيا. أما بالنسبة “لليهود المعادين للسامية”، فإن هذا الخبر يهدف إلى جعل ضحايا الهولوكوست مسؤولين عن اختفائهم.
    في إسرائيل، انتقد الرئيس يتسحق هيرتزوغ ما وصفه بأنه “أكاذيب لافروف الرهيبة” التي “تفوح منها رائحة معاداة السامية”، ودعاه إلى التراجع عنها. لكنه صرح في الوقت نفسه بأنه لا يعتقد أن هذا الخلاف اللفظي بين البلدين يمكن أن “يضر بعلاقتهما”. أما وزير الخارجية يائير لبيد، فقد وصف هذه التصريحات بـ”الشنيعة” قائلا إنها “لا تُغتفر”، بل وأضاف بنبرة حادة: “إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، لكن لكل أمر حدود، وقد تم تجاوزها هذه المرة” (1). وقد تراءى للبعض خوف إسرائيلي ضمني من عدم قدرتها على الحفاظ على الموقف “الحيادي” الذي حرصت عليه مع روسيا منذ بدء غزو جيش الأخيرة لأوكرانيا.
    حياد حذر في الملف الأوكراني
    لم يرد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت أن يقوم برد فعل في الأيام الأولى التي أعقبت تصريحات لافروف، على أمل أن يتمكن من حل الأزمة المفتوحة بين الدولتين. لكن موسكو لم تتوقف عند هذا الحد. ففي الثالث من أيار (مايو)، اعتبرت وزارة الخارجية الروسية تصريحات لبيد “مخالفة للتاريخ”، وأنها “توضح إلى حد كبير سبب دعم الحكومة الإسرائيلية الحالية للنظام النازي الجديد في كييف”. بل وكشرت روسيا عن أنيابها في اليوم التالي، حيث كشفت مجموعة تدعى “ريبار” تعرف بقربها الشديد من الكرملين، على تطبيق “تلغرام”، عن قائمة تضم عشرين إسرائيليا اتهمتهم بكونهم “مرتزقة” في الجيش الأوكراني. وقد نشرت أسماؤهم وتواريخ ميلادهم -وحتى أرقام جوازات سفرهم! ومعظم هؤلاء هم من حراس الأمن القنصليين الإسرائيليين، أما البقية، فهم يعملون في الوكالة اليهودية (وهي المنظمة التي تتعامل بشكل خاص مع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل). كل هذه “المعلومات” نشرتها قناة تلفزيونية روسية.
    سعياً إلى الحفاظ على موقف “متوازن” بين الطرفين المتحاربين، صوتت إسرائيل بعد اندلاع الحرب لصالح اقتراح الأمم المتحدة الذي يطالب بانسحاب فوري للقوات الروسية من أوكرانيا، وكذلك لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتعليق مشاركة روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة. لكنها رفضت في الوقت نفسه تسليم أسلحة لكييف حفاظاً على علاقتها مع موسكو، ولم تحترم العقوبات المفروضة على روسيا. ولكن يبدو أن الأمور بين البلدين بدأت تسوء.
    في الحقيقة، ليست هذه المرة الأولى منذ اندلاع الحرب التي يتبادل فيها الروس والإسرائيليون الاتهامات. ففي أوائل نيسان (أبريل)، تحدث يائير لبيد عن “جرائم حرب” روسية في أوكرانيا، وردت الخارجية الروسية بأن هذا التصريح لا يعدو كونه “تمويهاً ضعيفاً يهدف إلى استغلال الوضع في أوكرانيا، لصرف انتباه المجتمع الدولي عن أقدم نزاع لم يتم حله، وهو الصراع بين إسرائيل وفلسطين” (2).
    يبدو الوضع أكثر حدة هذه المرة. ولا شك أن التصريحات الروسية ناتجة عن سخط تجاه موقف “الحياد” الإسرائيلي (والذي يثير بالمناسبة حنق واشنطن أيضاً). وفي دوائر واسعة في إسرائيل -بما في ذلك الأمنية- يُنظر إلى هذا “الحياد” بشكل متزايد على أن تكلفته تفوق فائدته. في الثالث من أيار (مايو)، ذكرت صحيفة “هآرتس” اليومية الإسرائيلية أن “العديد من مصنعي الأسلحة الإسرائيليين، الذين يصدرون سلعهم إلى دول مختلفة، يخشون من عواقب هكذا موقف، لو تبين لدول تستخدم أنظمة أسلحة إسرائيلية أن تل أبيب ترفض، في لحظة صعبة، تزويدها بالسلاح وبأنظمة اتصالات لأسباب سياسية” (3). وبمعنى آخر، إسرائيل تاجر أسلحة لم يتعود أن يأخذ بعين الاعتبار، على المستوى التجاري، هوية عملائه السياسية. وإذا صنعت استثناء في حالة أوكرانيا، فقد يقود ذلك بعض الدول إلى التوجه نحو مزودين آخرين.
    إيحاءات معادية للسامية
    لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي ظل يفضل الموقف “الحيادي” حتى بعد أن زاد الهجوم الروسي حدة. فبعد تصريحات لافروف، ضاعفت قنوات روسية عدة من عدد البرامج التي تحتوي على إيحاءات معادية للسامية، ونددت بهؤلاء الأشخاص “الذين يغادرون وطنهم في الأوقات الحرجة ويختبئون في إسرائيل للتحريض على كراهية الروس” (4). وكانت تقدم في كل مرة كدليل على اتهاماتها أسماء يهودية بامتياز.
    تدهور الوضع، وقامت موسكو عبر قنوات مختلفة بإرسال رسائل مشفرة إلى إسرائيل توحي بإمكانية سحب موافقتها بقصف مواقع عسكرية إيرانية في سورية. كما أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في الرابع من أيار (مايو) أن “المرتزقة الإسرائيليين يعملون يدا بيد مع مليشيات آزوف في أوكرانيا” (5)، مدعية أن وكالة فرانس برس هي صاحبة هذا الخبر. تصرف كهذا مريب فعلاً. صحيح أنه تم إنشاء مجموعة “آزوف” -وهي مليشيا قومية أوكرانية متطرفة- من قبل أحد عناصر النازيين الجدد، وهو أندريه بيلتسكي، الزعيم السابق لمجموعة “وطنيون” الأوكرانية التي كان هدفها “قيادة النضال الأخير للعرق الأبيض من أجل بقائه على قيد الحياة، ضد من هم دون البشر بقيادة العرق السامي” (6). ولكن في تموز (يوليو) 2018، وقعت أربعون منظمة إنسانية إسرائيلية على عريضة تطالب وزارة الدفاع بوقف إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا، لأن جزءًا منها كان يصل إلى النازيين الجدد. ومنذ ذلك الحين، صارت “آزوف” مجموعة منفصلة تابعة للجيش الأوكراني.
    في الواقع، ليست الجماعات العنصرية والنازية الجديدة نادرة الوجود في أوكرانيا. لكن المشكلة هي أنها تتواجد كذلك بكثرة في روسيا، وأنها تدعم عموماً نظام فلاديمير بوتين وعقيدة التفوق الروسي الكبير. كما أن التذرع بميليشيا “آزوف” لوصف شعب بأكمله بـ”النازيين” -بما أن الهدف المزعوم وراء الهجوم الروسي هو “اجتثاث النازية” من أوكرانيا- هو خدعة كبرى.
    البعد السوري
    في الرابع من أيار (مايو)، في صحيفة “هآرتس”، قدر الصحفي الإسرائيلي يوسي ميلمان، المقرب من “المخابرات” والذي يحظى في الوقت نفسه باحترام كبير، أن روسيا وإسرائيل قد “دخلتا الآن في مسار تصادمي” أطلقته موسكو. ويعود ذلك وفق ميلمان إلى كون روسيا تنوي في الوضع الحالي تعزيز علاقاتها مع إيران، ما يقتضي تباعداً مع إسرائيل. ويبدو من كلامه أن الروس يبدون اهتمامًا شديدًا بكيفية تمكن الإيرانيين من تفادي العقوبات الدولية التي فرضت عليهم لأكثر من أربعة عقود، بمبادرة من الولايات المتحدة. ويقدم ميلمان ما يعتبره مثالاً على تصاعد التوترات بين الروس والإسرائيليين، وهو إلغاء الروس -من دون تفسير- لاجتماع هاتفي بين وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ونظيره الروسي سيرغي شويغو، بشأن القصف الإسرائيلي في سورية.
    كما أثار تصويت إسرائيل لصالح تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ضغينة موسكو. ووفق ميلمان، توجه ميخائيل بوغدانوف، المسؤول عن سياسة الشرق الأوسط في الكرملين، إلى السفير الإسرائيلي في موسكو بهذا الكلام: “دائمًا ما نسقنا معكم في الشرق الأوسط، وسيكون الأمر مخجلاً لو وضعتم حداً لذلك”، ما قد يوحي بإمكانية تطور الموقف الروسي تجاه إسرائيل بشأن الملف السوري والفلسطيني.
    ولكن، على الرغم من هذا “الغضب” الدبلوماسي، يشير ميلمان -نقلاً عن “خبراء” من بلاده لم يكشف عن هويتهم- إلى أن موسكو “تتفهم وتقبل موقف الإسرائيليين”. بمعنى آخر، لن تسمح روسيا لسورية باستخدام بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات من طرازات S-300 وS-400 التي زودتها موسكو بها، ضد سلاح الجو الإسرائيلي. لكن الصحفي الإسرائيلي يختم قائلاً: “مثلما أعربت واشنطن ودول أوروبية أخرى عن إحساسها بالخيبة أمام “الحياد الإسرائيلي المذهل”، فقد حان الآن دور الروس”. ويبدو يوسي ميلمان مقتنعاً مثل الكثيرين في الدوائر السياسية والأمنية الإسرائيلية، بأنه إذا استمرت الحرب في أوكرانيا لفترة طويلة، فلن يتمكن بلدهم من الحفاظ على موقفه الحيادي إلى الأبد.
    لكن نهاية فترة التوتر بين إسرائيل وروسيا كانت مفاجئة.. وسريعة، وقد فندت -ولو للحظات- قراءة “مسار التصادم”. ففي الخامس من أيار (مايو)، أعلن نفتالي بينيت أن فلاديمير بوتين اعتذر له خلال محادثة هاتفية عن التعليقات التي أدلى بها لافروف. وقد أبدى بينيت رضاه عن ذلك وشكره، واغتنم فرصة اقتراب موعد العرض العسكري الكبير للتاسع من أيار (مايو) في موسكو، للتذكير بأهمية دور الجيش الأحمر في هزيمة الرايخ الثالث. ومن جهته، قدم بوتين “أطيب تمنياته” لمستقبل دولة إسرائيل قبيل مراسم الاحتفال بتأسيسها (15 أيار/مايو 1948). باختصار، بات الحادث الدبلوماسي في خبر كان وعادت المياه إلى مجاريها بين البلدين. حتى أن ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، نفى علنا في اليوم التالي أن يكون بوتين قد اعتذر على الإطلاق، من دون أن يثير هذا التصريح استياء بينيت.
    محو خطوط الانقسام التقليدية
    ما الاستنتاجات الأولية التي يمكننا استخلاصها من هذه الحادثة المهمة -على الرغم من كونها عابرة؟- بادئ ذي بدء، إذا كان النازيون الجدد موجودين في أوكرانيا، فإنهم ليسوا في حكومة كييف، في حين أن الدائرة المقربة لفلاديمير بوتين تعد معادين معروفين للسامية ونشطين على الساحة الروسية العامة. ولا عجب في ذلك؛ إذ إن معاداة السامية ساكنة منذ البداية في عقيدة روسيا العظيمة التي أسس بوتين حربه على أساسها.
    ثانيا، بالنسبة لإسرائيل، فإن الحفاظ على علاقة المصالح مع موسكو في قضايا الشرق الأوسط أهم بكثير في الوضع الحالي مما كنا نتوقع. لكن الدرس الرئيسي الذي نستنتجه من المواجهة الروسية الإسرائيلية الأخيرة هو أن محو خطوط التحالف والانقسام التقليدية هو أهم نتيجة ظهرت على المستوى الدولي.
    ليست إسرائيل -التي يفترض أنها “أفضل حليف” للأميركيين- الوحيدة التي تقدم مثالاً مذهلاً على ذلك في الشرق الأوسط. فقد تحررت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة -وهما حليفان “تاريخيان” لواشنطن في المنطقة- من الضغوط الأميركية على أعضاء منظمة البلدان المنتجة للنفط (أوبك)، بهدف تشكيل تحالف دولي لمنتجي النفط والغاز لإضعاف روسيا. كما لا تبدو مصر حريصة على تطبيق العقوبات الغربية على موسكو. أما تركيا، فهي التجسيد الحقيقي للموقف “المتوازن” بين الولايات المتحدة وروسيا.
    خلاصة القول هي أن تركيا تعتزم من ناحية الحفاظ على عضويتها في الناتو (حلف شمال الأطلسي) وتصوت في الأمم المتحدة على القرار الذي يدين الحرب الروسية على أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، فهي ترفض المشاركة في العقوبات الاقتصادية الغربية. وكما صرح وزير خارجيتها مولود كافوس أوغلو في 14 نيسان (أبريل)، فإن بلاده تعتزم “مواصلة اتباع سياسة متوازنة في منطقتها”.
    “متوازن” هو المصطلح المناسب لوصف سياسة تكون فيها المصلحة المباشرة هي البوصلة الرئيسية. وفي هذا الشرق الأوسط الذي بات يشعر بأن واشنطن أقل قدرة اليوم على فرض إرادتها خارج مجالها الخاص (الغرب)، أصبح مبدأ “أنا أولاً” هو النهج. وصارت التحالفات تبنى وتقوض وفقًا للمصالح الاقتصادية. ويبدو نفتالي بينيت ومحمد بن سلمان ورجب طيب أردوغان مقتنعين بذلك.
  • الغد