أحدثت الموارد النفطية تطورات غير مسبوقة في المجتمع الخليجي، لكن هذه النجاحات شابها ما يعرف ب”نقمة النفط”. ومع ذلك، منحت السنوات العديدة الماضية منطقة الخليج فرصة لتغيير هذا المسار.
* *
لا شك أن المكاسب التي حققتها دول الخليج على مدى العقود الماضية، والتي تحققت نتيجة ثرواتها النفطية كانت هائلة، لا سيما في ما يتعلق بتطوير بنية تحتية موثوقة، والتقدم الحاصل في القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
ومع ذلك، تعاني منطقة الخليج أيضًا من التداعيات السلبية للنفط، الأمر الذي حال دون تنويع الأنشطة الاقتصادية وتوفير الحوافز للمنافسة في الأسواق الخارجية. لذلك، نجد أن الأداء الاقتصادي والاجتماعي لعدد من الدول الغنية بالثروات الطبيعية كان أقل مقارنة بالدول الشبيهة التي تفتقر إلى مثل هذه الثروات.
وبمعنى آخر أصبحت “نقمة النفط” هي القاعدة، بينما مثلت “نعمة النفط” الاستثناء في دول أحسنت استعمال هذه الموارد لتحقيق التنمية، مثل ماليزيا وتشيلي.
تعود ظاهرة “نقمة النفط” إلى ما يعرف ب”المرض الهولندي” الذي يعني أن اكتشاف الثروات الطبيعية (مثل النفط والغاز الطبيعي والمعادن) غالبا ما يؤدي إلى زيادة سعر صرف العملة الوطنية نتيجة تدفق الأموال من الخارج بهدف الاستثمار في الموارد الجديدة.
وينتج عن هذه التحويلات المالية ارتفاع سعر صرف العملة المحلية مما يحد من تنافسية الصادرات غير النفطية. وما يزيد الطين بلة أن هذه الثروات الطبيعية لا توفر محفزات للاستثمار في الأنشطة البديلة والابتكار والمنافسة في الأسواق الخارجية؛ حيث يلجأ رجال الأعمال إلى مشاريع القطاع العام المغرية، بينما تفضل العمالة المواطنة المؤسسات الحكومية على حساب القطاع الخاص.
مع انتهاء العصر الذهبي للنفط بانهيار أسعاره في منتصف العام 2014، اعتمدت العديد من الدول استراتيجيات التنويع الاقتصادي، مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ومبادرة “الإمارات ما بعد النفط”.
لكن ما نود التركيز عليه في هذا المقال هو أن تداعيات جائحة كورونا يمكن أن تكون في حد ذاتها فرصة للإصلاح الاقتصادي بهدف الإعداد لحقبة ما بعد النفط.
غالبا ما توفر الأزمات فرصًا سانحة تساعد صناع القرار على القيام بإصلاحات ضرورية كان من الصعب القيام بها في الظروف العادية.
ومن أمثلة ذلك الإصلاحات التي حدثت في تشيلي تحت حكم الجنرال أوغستو بينوشيه في بداية السبعينيات من القرن الماضي، إبان الأزمة الخانقة التي أدت إلى الانقلاب العسكري على الحكومة المنتخبة التي كان يقودها الزعيم الاشتراكي سلفادور ألندي، و”إصلاحات الصدمة” في أوروبا الشرقية بعد انهيار النظام الشيوعي، وإصلاحات اليونان بعد انكشاف خدعة الدين الخارجي في السنوات الأخيرة.
وكل هذه الإصلاحات كان من الصعب القيام بها من دون أزمات وضعت السلطة السياسية أمام أمر واقع اقتصادي لا مفر منه.
وفى حين أفرزت تلك الأزمات تداعيات عديدة، إلا أن الأثر الإيجابي لتلك الإصلاحات الاقتصادية أصبح دليلاً ومؤشراً ونموذجًا للدول الأخرى.
لا جدال في أن الواقع المعاش حاليا في دول الخليج العربية هو أبعد ما يكون عن الأزمة.
فبعد نمو اقتصادي سلبي حتمي للأنشطة غير النفطية نتيجة الجائحة في سنة 2020 يقدر -حسب بيانات صندوق النقد الدولي- بحوالي 2.5 في المائة بالمملكة العربية السعودية، و6 في المائة في كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، و3.9 في المائة في سلطنة عُمان، و2.7 في المائة في قطر، و9 في المائة في الكويت، استعادت كل هذه الدول نمواً إيجابياً خلال العام 2021 يقدر بنسبة 4.9 في المائة في المملكة العربية السعودية، و2.8 في المائة في البحرين، و2.7 في المائة في كل من سلطنة عمان وقطر، و2.2 في المائة في الإمارات، و1.8 في المائة في الكويت.
وعلى الرغم من تدهور الوضع من جديد نتيجة استمرار الجائحة والحرب في أوكرانيا، من غير المستبعد أن تستفيد دول الخليج العربية من ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، بالتزامن من عودة حركة النقل والسياحة التي سوف تعطي دفعا قويا للاقتصاد بمختلف مكوناته.
مع ذلك، ينبغي على دول الخليج أن تنظر إلى هذه الفترة على أنها بمثابة فرصة لمواصلة العمل الذي بدأ في العام 2014، حيث اتبعت معظم الدول الخليجية المنتجة للنفط استراتيجيات الإصلاح الاقتصادي والتنويع لأعوام عديدة. ولذلك لا توجد حاجة الآن إلى إضافة المزيد من البرامج أو الاستراتيجيات الجديدة.
في هذا الصدد، حققت كل من الإمارات العربية المتحدة باعتبارها الاقتصاد الأكثر تنوعًا، والمملكة العربية السعودية باعتبارها الاقتصاد الأكبر في المنطقة، وطموح رؤية السعودية 2030، تقدما ملحوظا في هذا الشأن.
بالنسبة للإمارات، تم إطلاق رؤية الإمارات 2021 من قبل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء في العام 2010، وتم الإعلان عن الهدف الرئيسي وهو تحقيق اقتصاد تنافسي معرفي مبني على الابتكار.
وإضافة إلى ذلك، تم الإعلان عن رؤية السعودية 2030 بصفة رسمية من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، باعتباره نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، مما أعطى إشارة واضحة عن التزام القيادة بتوفير فرص النجاح للخطة الطموحة، إذ إن الفشل سوف يكون مُكلفا من حيث سمعة الدولة والتداعيات السلبية لذلك على مصداقية برامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في المستقبل.
وفي ما يتعلق بوضع الخطط وجودة التنفيذ، بما في ذلك قياس مؤشرات الأداء، تعتمد رؤية الإمارات 2021 على أولويات أهمها توفير بيئة مستدامة وبنية تحتية متكاملة، مع التركيز على البعد المجتمعي للإصلاحات.
وعلى المنوال نفسه، اعتمدت رؤية السعودية 2030 على برامج منها برنامج صندوق الاستثمارات العامة، الذي يهدف إلى تحويل الصندوق إلى أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم، ليقود قاطرة الاستثمار ذي البعد الاستراتيجي، وبرنامج الاستدامة المالية الهادف إلى تحسين أداء الحكومة من خلال تحسين كفاءة الإنفاق ونمو الإيرادات وإدارة المخاطر، وبرنامج تنمية القدرات البشرية الذي يسعى إلى أن يمتلك المواطن قدرات تمكنه من المنافسة عالمياً.
تتضمن رؤية 2030 بعض البرامج التي تهدف إلى تطوير القطاع المالي بحيث يصبح قطاعا متنوعا وفاعلا يحفز على الادخار والتمويل والاستثمار، من خلال تطوير وتعميق المؤسسات المصرفية والمالية، وتطوير سوق الأوراق المالية لتلعب دورا مكملا لدور المؤسسات المصرفية والمالية.
كما تم وضع برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية بغية تحويل المملكة إلى قوة صناعية رائدة برفع المحتوى المحلي للتصنيع بناء على الموارد الطبيعية المتاحة، ومنصة لوجستية عالمية أسوة بما حققته دبي في هذا المجال.
بطبيعة الحال، لا تخلو أي عملية إصلاح من تحديات؛ وعلى سبيل المثال، لم يكن من السهل إعادة تأهيل العمالة الوطنية التي كانت تعتمد في السابق على الوظائف المريحة في القطاع، لتلبي متطلبات القطاع الخاص.
وبذلك تكون لخفض -أو حتى مجرد تجميد- الأجور في القطاع العام لترشيد الأنفاق والتقليل من عبء الدين العام انعكاسات سلبية لدى الرأي العام، وقد يؤدي إلى فقدان المؤسسات الحكومية لكفاءات وطنية هي في أمس الحاجة إليها، مثل هجرة المدرسين والأطباء إلى القطاع الخاص الذي يمتاز بتوفير بيئة عمل مرنة وتنافسية.
الآن، يجب التركيز على الوسائل التي تستطيع من خلالها هذه البلدان تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الأزمة الحالية، مما قد يسمح بتنفيذ أسرع لتلك الإصلاحات المقترحة مُسبقاً.
كما تستحق الإصلاحات الرئيسية الأخرى التي لا تحمل طابعاً اقتصادياً بحتاً الاهتمام أيضًا، وتشمل إصلاح التعليم بشكل يتماشى مع متطلبات العولمة، مع التركيز على التعليم المهني والتدريب داخل المؤسسات.
ويمكن أيضا اعتماد قانون موحد للاستثمار (المحلي والأجنبي) وإلغاء العراقيل أمام مزاولة الأعمال. ويمكن أيضا تحقيق التنفيذ الفعال من خلال الإعلان الرسمي عن الالتزام بروزنامة الإصلاح ضمن جدول زمني محدد.
كما أن تكليف فريق عمل من الخبراء المتميزين بإعداد تقارير منتظمة حول الأداء والتقدم الحاصل في عملية الإصلاح، سيساعد على رفع مصداقية برامج الإصلاح وتلافي التأخر في التنفيذ ومقارنة النتائج بالتوقعات السابقة، وتغيير مسار الإصلاحات حسب الحاجة.
ومع الالتزام الحكومي بإنجاح تلك الإصلاحات، لا يوجد خيار آخر غير المتابعة المتأنية للتقدم الحاصل والعمل على التعامل مع أوجه الخلل عند ظهورها.
والأهم من ذلك، اعتبار التحديات الحالية، بما فيها التحديات الناتجة عن جائحة كورونا، فرصة للمضي قدما في الاستعمال الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية للانتقال إلى اقتصاد تنافسي مبني على المعرفة.
الآن يبدو أن دول الخليج تعلمت كيفية إدارة التداعيات الشديدة الناتجة عن تفشى الوباء، وتوجهت من جديد نحو التطلع إلى المستقبل.
الغد