السؤال الذي تحول إلى محطة لدى جميع الأوساط السياسية العراقية في الأيام الأخيرة يدور حول محور واحد هو “ماذا يريد الصدر؟”. فالجميع يجزم بأن أحداً لا يستطيع التوقع أو التنبؤ بما يفكر فيه زعيم التيار الصدري، أو فهم التوجهات والخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها في تعامله مع الأزمة السياسية والحكومية.
إعلان تشكيل “تحالف إدارة الدولة” بمشاركة حزبي المكون الكردي الأساسيين، الاتحاد الوطني بقيادة بافل طالبان والحزب الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني، وكتلتي المكون السني، والسيادة بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي وعزم بقيادة خميس الخنجر إلى جانب قوى الإطار التنسيقي الشيعية يكشف عن ملامح جديدة بدأت تتشكل في الفضاء السياسي بين القوى الممثلة للمكونات العراقية، بعيداً من الصدر أو بمعزل عنه، لكن من دون إقفال الباب أمامه للانضمام إلى هذا التشكيل على أساس التوافق والشراكة والتخلي عن مطلب الأغلبية السياسية.
كان رئيس البرلمان محمد الحلبوسي واضحاً في تسويغ طلب الاستقالة الذي أدرجه على جدول أعمال الجلسة البرلمانية وما تشكله من أهمية في جهود إعادة تفعيل عمل البرلمان الذي عطله التيار الصدر بعد الاستقالة الجماعية لنوابه عندما تحدث عن تغيير جذري وأساس في تركيبة التحالفات التي حكمت المرحلة السابقة. وأن رئاسة البرلمان التي كانت نتيجة تحالف “إنقاذ وطن” الثلاثي بين المكون السني والحزب الديمقراطي الكردستاني والتيار الصدر فقدت شرعيتها التمثيلية بعد الاستقالة الصدرية والتغيير الحاصل في أحجام الكتل المتمثلة في البرلمان بعد استبدال المستقيلين بآخرين غالبيتهم من الإطار التنسيقي الذي بات يملك الثقل الأكبر داخل البرلمان والتمثيل الأوسع للمكون الشيعي.
خطوة الحلبوسي بالاستقالة التي أتت بعد أقل من 24 ساعة عن إعلان تحالف “إدارة الدولة”، ينطبق عليها المثل الشعبي “أكثر من عصفور بحجر واحد”، فهي بالدرجة الأولى تشكل منطلقاً له لتجديد شرعيته في رئاسة البرلمان بأصوات نواب الإطار الشيعي الذي كان يسعى ويطالب بإقالته وإبعاده عن الرئاسة، باعتباره رأس الحربة في التحالف الثلاثي الذي عقد عليه جهود التوصل إلى تفاهم حول حكومة توافقية. ويكفيه أن يصوت هؤلاء النواب على رفض طلب الاستقالة لتحقيق هذا الهدف.
وفي البعد الثاني، فإن انضمام الحلبوسي ومعه الخنجر إضافة إلى الحزب الديمقراطي يعتبر بمثابة إعلان وفاة التحالف الثلاثي “إنقاذ وطن” الذي تشكل بالشراكة مع التيار الصدري. وما يعنيه ذلك من إعلان وفاة مشروع حكومة الأغلبية السياسية التي كانت الأساس في خلفية تشكيل هذا التحالف.
وفي البعد الخاص داخل المكون السني استطاع الحلبوسي دفع الإطار التنسيقي للتخلي عن حلفائه في مناطق نفوذه في المحافظات الغربية وتحديداً في الأنبار من المكون السني، ما يعني تكريس زعامته وقيادته للمشهد السياسي كممثل لهذا المكون في العملية السياسية.
إعادة إنتاج رئاسة الحلبوسي للبرلمان أو السلطة التشريعية على قاعدة الشراكة هذه المرة مع الإطار التنسيقي الشيعي، قد يكون جزءاً من الصفقة التي تمت بينه وبين القوى والأحزاب التي شكلت تحالف “إدارة الدولة”، التي وضع في الورقة التفاهم التي وقعت عليها جميع الأطراف المشاركة أسساً رئيسة بمثابة إعلان نوايا للمرحلة المقبلة، تتضمن خطة سياسية وأمنية واقتصادية، تشمل غالبية الهواجس التي شكلت عراقيل أمام التفاهمات والتسويات وتنسجم مع المبادرة التي سبق للحلبوسي أن قدمها قبل أسابيع، بالتزامن مع بروز مؤشرات جدية لحدوث تحول داخل القوى التي يقوم عليها التحالف الثلاثي، بخاصة بعد معركة المنطقة الخضراء بين سرايا السلام الذراع العسكرية للتيار الصدري والقوات التابعة للحشد الشعبي. بما فيها إنهاء الوجود المسلح للفصائل في المدن العراقية، وإخراج مراكز ومقار وثكنات الحشد الشعبي والقوات المسلحة إلى أطراف هذه المدن، فضلاً عن وضع آلية جديدة في التعامل مع العدالة والمسألة والإقصاء.
هذه التطورات المتوالية التي يعيشها المشهد السياسي العراقي، وإعادة خلط التحالفات والتوازنات والتوجهات، وضعت كل القوى السياسية من مختلف المكونات، التي كانت حتى الأمس القريب في صراع مفتوح وإلغائي بين بعضها البعض، في سياق معادلة جديدة من التحالف، نتيجتها الأولى والأساسية والأبرز أنها وضعتهم في مواجهة مقتدى الصدر وتياره الذي بات شبه محاصر، وإذا ما أصر على عدم الذهاب إلى التفاهم والحوار والإصرار على مواقفه ومطالبه قد تضعه في دائرة العزلة وخارج العملية السياسية. وفي هذه الحالة تصبح الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات، بخاصة لدى الصدر الذي قد لا يتردد في اللجوء إلى الشارع مرة أخرى لإفشال التفاهمات التي رسمت على أسس ومنطلقات جديدة، وأسهمت في خسارته لحلفائه من المكونات الأخرى.
وإذا ما كانت الهواجس السياسية والمكوناتية هي التي دفعت الحلبوسي لعقد مثل هذه الصفقة مع الإطار التنسيقي، والتخلي عن تحالفه مع الصدر والانتقال إلى المعسكر المخالف له، فإن أسباباً أخرى قد تكون لعبت دوراً مقرراً في تبديل موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني وتخليه عن تحالفه الصلب مع الصدر. وهذه الأسباب قد لا تكون محصورة بالداخل العراقي والصراع على السلطة، وما حققه من مكتسبات نتيجة الاتفاق مع الإطار التنسيقي في مجال قانون النفط والغاز والعلاقة بين الإقليم وبعض المناطق المتنازع عليها في كركوك وسنجار وحصة الإقليم من الموازنة العامة. بل قد تكون لأسباب تصب في مساعي بارزاني لتهدئة الموقف الإيراني السلبي منه بعد اتهام طهران له بلعب دور سلبي في تأجيج الحراك الكردي داخل إيران على خلفية مقتل الفتاة الكردية “مهسا أميني” على يد شرطة الأخلاق.
تحالف إدارة الدولة وضعت الصدر في مواجهة واحد من خيارين، إما الذهاب إلى المعارضة والشارع، وإما القبول بالتسويات المقترحة، وأقصى ما يمكن أن يقدمه الإطار له، بالمناصفة في تقاسم حصة المكون الشيعي في الحكومة، وما جاء من إعادة النظر في بعض الجوانب العسكرية المتعلقة بالحشد وانتشاره ودوره، كمدخل للتفاهم على مرشح تسوية لرئاسة الحكومة يتخلى بموجبها الإطار عن مرشحه محمد شياع السوداني، ويتخلى الصدر عن مطلب التجديد لمصطفى الكاظمي.
اندبندت عربي