عشية الذكرى الثالثة للاحتجاجات التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 كتب رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي مقالة تكشف حجم الأزمة المطبقة على الحياة السياسية الحالكة التي يعيشها العراق، قائلاً إن الجميع يدرك أن أي حكومة لا تضم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ستواجه تحديات ضخمة وأن “الطبقة السياسية في العراق تواجه أزمة ثقة مع الجمهور وقد يؤدي استبعاد الصدر إلى تكرار أكتوبر 2019 أو ما هو أسوأ”.
ولم يوضح الكاظمي ما هو الأسوأ الذي سيحدث في الاحتجاجات المقبلة التي ربما يتحالف فيها “التشرينيون” مع “الصدريين” ليشكلوا قوة دفع ضخمة لا تقوى أي حكومة ينوي “الإطار التنسيقي” تأليفها على تشتيتها، لا سيما بعدما توقفت احتجاجات تشرين الماضية بصورة دراماتيكية مخلفة عشرات آلاف الضحايا بين قتيل وجريح ومعوق.
أكتوبر أوان الاحتجاج
وتأتي ذكرى “احتجاجات تشرين” التي اندلعت في بغداد وبقية المحافظات الوسطى والجنوبية ذات الغالبية الشيعية لتثير أكثر من قضية في المجتمع العراقي، بعدما خلفت ضحايا زاد عددهم على 700 قتيل وآلاف الجرحى جلهم من الشباب الذي رفع شعار “نريد وطن” وكأنهم يؤشرون إلى أنهم من دون وطن يحلمون بالعيش فيه كما يتصورون بعد أن يتم التخلص من مظاهر الفساد وهدر المال العام، وفق لجان النزاهة البرلمانية والحكومية، إضافة إلى تقارير ديوان الرقابة المالية التي أوردت أن مئات المليارات من المال العام اختفت من موازنات الدولة وأخرى في مشاريع وهمية، وفق رئيس اللجنة المالية البرلمانية أحمد الجلبي وزادت بوتيرة أكبر بعد رحيله الغامض.
تلك الأوضاع الاقتصادية المتردية تسببت بتراجع مخيف في قطاعات مهمة في الدولة كالصناعة والزراعة وقادت البلاد إلى التصحر جراء إهمال بناء السدود والخزانات المائية، كما انهار التعليم وتأثر قطاع الصحة واشتعلت حرائق مريبة في المستشفيات والمباني الحكومية والخاصة.
لكن الأكثر خطورة جراء هذا الواقع هو حملة الاعتقالات التي طاولت المحتجين وتطور الوضع الميداني إلى صدامات عنيفة طيلة الأشهر التي تلت الاحتجاجات وتعمدت السلطة استخدام الرصاص الحي وقنابل الغاز الحارقة، مما أسفر عن سقوط ضحايا كثر وصعد من تحدي المتظاهرين للسلطة التي قتلت عدداً منهم واعتقلت آخرين واستخدمت القنص من أسطح المباني الحكومية، فيما اتهمت حكومة عادل عبدالمهدي التي أسقطها الشارع العراقي طرفاً ثالثاً بقتل المحتجين وأبقت الباب مفتوحاً أمام استمرار التحركات في كل عام، تؤججها نقمة المجتمع على العملية السياسية التي عدت ميتة بنظر جيل عراقي شاب ما كان يتوقع ذلك العنف الذي شهدت قمته محافظة ذي قار الجنوبية، لا سيما مدينة الناصرية التي قمعت بقسوة على يد فرق مكافحة الشغب والميليشيات الولائية لتتحول المدينة وأقضيتها إلى مخزن بارود ومعين للغضب الشعبي على السلطة ورموزها.
ظاهرة استهداف القنصليات
وتطور الموقف الاحتجاجي إلى أعلى مدياته بحرق القنصليات الإيرانية في النجف وكربلاء والبصرة، مما أحرج النظام السياسي الذي وجد في ذلك تحدياً لعبدالمهدي حليف قوى “اللادولة” التي تمثلت في الميليشيات الولائية، لكن إرادة المحتجين ازدادت وتغير الشعار من “نريد وطن” إلى المطالبة بإسقاط النظام السياسي القائم على القمع والسلاح المنفلت وتدخلت المرجعية الشيعية العليا المتمثلة في السيد علي السيستاني الذي طلب استقالة حكومة عبدالمهدي والعمل على إجراء انتخابات مبكرة مع حكومة موقتة لتصريف الأعمال برئاسة الكاظمي.
ملف الضحايا مفتوح
على رغم كل ذلك فإن ملف ضحايا الاحتجاجات ظل مفتوحاً حتى اليوم مع مطالبة منظمة العفو الدولية بالكف عن استخدام العنف ضد المتظاهرين ودعوتها السلطات العراقية إلى إجراء التحقيقات اللازمة مع المتورطين بسقوط الضحايا بعدما وجهت الاتهامات إلى قوات مكافحة الشغب والميليشيات بإطلاق الرصاص الحي ضد المحتجين، إضافة إلى توجيه اتهامات صريحة إلى الميليشيات المرتبطة بإيران كـ”سرايا الخراساني” بتنفيذ عمليات قنص وقتل متظاهرين وهي الجهات التي أسماها عبدالمهدي “الطرف الثالث”.
المرجعية غاضبة ومحرجة
موقف المرجعية الدينية في النجف في حينها بدا الأكثر تشدداً مع السلطة التي استخدمت العنف المفرط حيال المتظاهرين وسعت المرجعية إلى وقف القمع الذي يأتي بأوامر مجهولة المصدر ووقف عبدالمهدي مكتوف اليدين على رغم كونه القائد العام للقوات المسلحة بحكم توليه منصب رئيس الوزراء وفق الدستور، لكنه ظهر عاجزاً يحابي الميليشيات التي باتت تستسهل القتل.
أمام ذلك المشهد الدامي أحرجت المرجعية في النجف وأخذت على عاتقها تولي توجيه الجمهور الشيعي نحو ضرورة احترام حق التظاهر ودعتهم إلى عدم اللجوء إلى العنف وحرق المباني، لكنها أصرت على استقالة الحكومة وألقت باللائمة عليها ودانت عنفها المفرط مع المحتجين وبذلك أسهمت في تقليل الخسائر ورفعت الغطاء عن حكومة تقتل شعبها بتلك الطريقة غير المسبوقة وترك ذلك شرخاً لن يندمل بين المرجعية الدينية الشيعية والقيادات السياسية الحاكمة.
وشهدت تلك الفترة ظاهرة استهداف الناشطين والمتظاهرين البارزين في “احتجاجات تشرين” فقد غيّب العشرات منهم من قبل ما يسمى “الطرف الثالث” أي الفرق الخاصة التي استهدفت أسماء محددة من بينهم وأعدمتهم ميدانياً، أو خطفتهم من ساحات التظاهر أو أثناء عودتهم إلى منازلهم ليلاً، مما ولد حالاً من الهلع داخل ساحات التظاهر ولجوء المتظاهرين إلى التسلح لحماية أنفسهم وشكل ذلك تحدياً جديداً لطبيعة الاحتجاجات وسلميتها بدأته السلطة وميليشياتها وفرق التصفيات (الطرف الثالث).
وحاولت المنظمات الدولية المختصة ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية التدخل في إطلاق سراح المختطفين، لكنها لم تفلح إلا في حالات محدودة ليبقى ملف المغيبين مفتوحاً من دون حلول ويعمق صراع المحتجين التشرينيين مع السلطة.
بواعث التظاهرات
لم تكن التظاهرات سوى ردود فعل شبابية مجتمعية ضد ظواهر الفساد الذي يعانيه المجتمع بشكل عام وشيوع الفقر والبطالة وانتشار الأمية، لا سيما في المناطق الوسطى والجنوبية ذات الغالبية الشيعية التي عولت على رفع مظلوميتها بعد عام 2003 وظنت بتغيير حالها المعيشية والاقتصادية في مجتمع نفطي تضاعفت إيراداته وموازناته عشرات المرات، لذلك أراد ذلك المجتمع أن يتحقق التغيير في بلده شأنه شأن الدول النفطية الأخرى، لكنه اكتشف أن تلك الثروات والعائدات لم تبدل حياته، بل تفاقمت ظروف البطالة والاستخدام السياسي في التوظيف من قبل أحزاب السلطة بهدف الحصول على الأصوات في الانتخابات المتكررة، مما ولد رفضاً لهذا الواقع المحابي لسلطة لم تف بوعودها ومناداتها بمظلومية شيعة العراق الذين تدهورت حياتهم وتعليمهم وشاع بينهم الجهل والأمية وسادت ظاهرة تزوير المسؤولين الشهادات العلمية وتغيرت أحوال رجال السلطة وتغول فسادهم.
اختراق محتجي تشرين
خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة أرادت الحكومة والتيارات السياسية ترضية المحتجين بإشراكهم في البرلمان وفسح المجال لبعض رموزهم لدخول العملية السياسية لاسترضاء الجمهور الغاضب وإحداث أوسع اختراق في صفوف القيادات الاحتجاجية ونجحت إلى حد كبير باستمالة بعضها، ومنحتها أدواراً مع إغراءات وتلويح بالمناصب، لكن هذا ولد نقمة على الذين انصاعوا لهذا الدور وتعرضوا للنقد الشديد والعزل من قبل زملائهم الذين وجدوا في ذلك خيانة ما بعدها خيانة لأرواح الذين سقطوا في التظاهرات من دون عقاب للجناة أو الكشف عن أدوارهم ومسؤولياتهم في القتل.
هل سيتكرر العنف؟
كل المؤشرات ترجح تكرار النقمة الشعبية على الحكومة والبرلمان اللذين لم يتمكنا من الكشف عن الجناة في أكتوبر 2019 وما تلاه من تغييب للناشطين وزاد خروج الصدريين من الحكم الطين بلة ليكونوا معين الدفاع عن التظاهرات بما يملكونه من قدرات عسكرية، وإذا ما أصر “الإطار التنسيقي” على سياسته بعدم الاكتراث بالتيار الصدري وتشكيل الحكومة من دونه فإن العواقب ستكون وخيمة، على حد وصف الكاتب العراقي حيدر الياسري.
اندبندت عربي