تعيش إيران منذ أيام على وقع مظاهرات حاشدة إثر وفاة الفتاة مهسا أميني (أو مقتلها حسب رواية المتظاهرين) في مقر شرطة الأخلاق بعد يومين من القبض عليها بحجّة عدم ارتدائها اللباس الشرعي بطريقة صحيحة، وقد عمّت الاحتجاجات عدة مدن، ورأينا نساءً عديدات ينزعن حجابهن، ملقيات به في نيران ملتهبة أُشعِلت لهذا الغرض. لكن موجة الاحتجاجات لم تقف عند حد المطالبة بحرية المرأة، بل طالبت أيضاً بإسقاط نظام ولاية الفقيه الذي يحكم إيران منذ الثورة الإيرانية سنة 1979، تِلْكم الثورة التي أطاحت نظام الشاه محمد رضا بهلوي الذي ما كان ليحكم إيران إلا بإسنادٍ من الغرب الذي نصّبه خلفاً لأبيه سنة 1941، ثم دعمه وأعاده إلى منصبه بعد فراره سنة 1953.
تعدّ ولاية الفقيه جزءاً من العقيدة السياسية الشيعية الإمامية المعاصرة، وهي تنطلق من مبدأ الحرية حسب منظّريها! نعم، هكذا قيل. مبدأ حرية الناس وعدم إخضاعهم لسلطة أي أحد سوى الله سبحانه وتعالى. وانطلاقاً من هذا “لا يحقّ لأيّ إنسان إجبار الآخرين على الخضوع له، ولا يحقّ لأيّ إنسان سلب حرّيّة إنسان آخر، أو مصادرة حرّيّة مجتمع ما، فيَسنّ له القوانين، أو ينظّم علاقاته وسلوكه بموجب علمه وإدراكه الناقص، أو ميوله ورغباته”. ومن ثمّة، الحاكمية لله تعالى، وهذا يعني التوحيد في الحاكمية، بمعنى عدم قبول “حاكميّة أيّ شخصٍ ما لم تكن طاعته طاعة لله عزّ وجلّ، إذ له أن يفوّض الحكم إلى من يشاء من عباده”. وتبعاً لهذا، ونظراً إلى غياب الإمام المنتظر الذي يؤطّر فكر الشيعة الإمامية، تأتي “بداهة ولاية الفقيه”، وهي نظرية الحكم التي بُنِي عليها النظام الإيراني منذ الثورة، والتي لطالما حاول تصديرها إلى العالم الإسلامي، بدءاً بالجوار العربي.
حرّرت ثورة الخميني إيران من حكم الشاه ومن ظلمه وجبروته، وحرّرت الشعب الإيراني من السافاك (جهاز الأمن الداخلي والاستخبارات)، لكنها لم تحقّق تلك الحرية المنشودة لدى الشعب الإيراني، بل حوّلت البلاد من تطرّفٍ مُغالٍ في التغريب والعلمانية وتبعية الغرب إلى تطرّفٍ مغالٍ في التدين والتشدّد في إبداء مظاهر الورع والتقوى، ومعاداة الغرب والولايات المتحدة بالخصوص. بقيت أساليب القمع والقهر والاستبداد تقريباً على حالها، مع إضفاء الصبغة الشرعية عليها وإعطائها الصبغة الدينية اللازمة للحفاظ على الثورة الإسلامية التي يريد أعداء الإسلام تقويضها والنَّيل منها ومن مكتسباتها، وذهبت الحرية أدراج الرياح، لكن هذه المرّة باسم الدين، بينما كانت قبل ذلك غائبة للحفاظ على نظام الشاه. وهكذا تعدّدت الأسباب والقهر واحد.
نعم، للحرية ضوابط وإلا أصبحت فوضى، وللحرية قوانين مؤطِّرة، وإلا أصبحت فتنة ووبالاً
يعجّ العالم كل يوم بحوادث لا يُلقى لها بال، ولا تكاد تُذكَر في الأوقات العادية، وإذا ذُكِرت فمن باب ملء الفراغ في النشرات الإخبارية، لكن الحوادث نفسها تتحوّل إلى أعواد كبريت لإشعال نار الثورات؛ وذلك عندما يكون الاحتقان سيد الموقف، وحينما يثقل الظلم كاهل الناس، ولما تُوأد الحرية ويُحرَم منها الإنسان الذي خلقه الله حرّاً. يعطي الله البشر حريةً وصلت إلى حدّ “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، أي بمعنى حدّ الاعتراف بالخالق تعالى من عدمه، فيأتي إنسان مخلوقٌ يحرمه حريته باسم الخالق.
نعم، للحرية ضوابط وإلا أصبحت فوضى، وللحرية قوانين مؤطِّرة، وإلا أصبحت فتنة ووبالاً، لكن الله وهب الحرية للإنسان تاركاً له حق الاستجابة أو لا لوازعه الديني، ولم يُكرهه على الإيمان، فكيف بغيره؟ هكذا لكي لا نكون أمام مجتمع منافق يُظهر الورع والتقوى، ويضمر الفحش والفسوق، يبدي العدل والإحسان ويخفي الظلم والهوان.
بدأت المظاهرات التي أطاحت نظام بن علي في تونس بحادث مُصادَرة عربة، وكانت شرارة بداية الربيع العربي. وكانت الاحتجاجات التي أسقطت الشاه قد بدأت بحادث حريق قاعة سينما في مدينة عبدان سنة 1978، وهي القصة التي يحكي روايتها المخرج شهرام مكري في فيلم “جريمة مُهمَلة”، وكانت شرارة بداية الثورة الإيرانية. وما نراه الآن من مظاهرات في إيران ينبئ بحدوث هبّة شعبية، وقد تكون بداية شرارة ثورة لتغيير ملامح النظام، فقد مرّت أكثر من أربعين سنة لم يستطع فيها نظام ولاية الفقيه تحقيق وعوده للشعب الإيراني في بلد من أغنى البلدان.
حوّلت ثورة الخميني البلاد من تطرّفٍ مُغالٍ في التغريب والعلمانية وتبعية الغرب إلى تطرّفٍ مغالٍ في التدين والتشدّد في إبداء مظاهر الورع والتقوى
فعلاً، عانى النظام من ويلات الحرب، ثم من عواقب العقوبات الاقتصادية والمقاطعة الغربية، لكنه لم يُبد أي مراجعاتٍ لسياساته الداخلية والخارجية، ولم يُبد أية مرونة لبلوغ أهدافه المعلنة والخفية، فصنع لنفسه ولغيره الصعاب والمتاعب. لم يستطع تصدير الثورة مباشرة، فصدّرها عبر وكلاء له في المنطقة العربية، وبهذا أصبح يتحكّم في مصير أربع عواصم عربية. غدت دمشق رهينة له ومدينة له ببقاء نظامها الدموي المُهلك المتهالك، ولم تستطع بغداد التحرّر من قبضة يده رغم الخلاف الداخلي الشيعي الشيعي. أما بيروت، فلا تقوم قائمة حكومةٍ من دون رضاه. وصنعاء سقطت بيده مع حكم الحوثيين. ناهيك عن تدخلاته في الدول العربية الأخرى، فهي تبدأ من شرقها ابتداءً من البحرين، وصولاً إلى أقصى غربها في المغرب الأقصى، فإيران لا تخفي مساندتها الواضحة لانفصاليي جبهة بوليساريو مع دعمهم بالسلاح والخبرات العسكرية. وإذا كان دعم إيران للقضية الفلسطينية أمراً محموداً، إلا أن التقييم الشامل لسياساتها يدفعنا إلى القول إن كثرة سيئاتها غطت على قليل حسناتها.
عوداً على بدء، حادثة وفاة مهسا أميني يوم 16 سبتمبر/ أيلول 2022 أشعلت غضب الإيرانيين، لكونهم قد عيل صبرهم من شرطة أخلاق لا تحترم روح الأخلاق وتتمسّك بمظاهرها، تُتّهم بممارساتٍ كثيرة غير مقبولة وبالشطط في استعمال السلطة. عيل صبرهم، وأغلبهم قد ولد بعد الثورة من نظام لم يعرفوا غيره، يحرمهم الحريات ويُكرههم على تَديُّن الملالي المتشدّد. ومن ثمّة قد تتطور هذه الاحتجاجات، وتتحول إلى ما يخافه النظام الإيراني الذي أنزل مظاهرات مضادّة وحشدها، ما يعكس تخوّفه الشديد مما يحدُث. وبدت علامات التخوف والتوجّس أيضاً من خلال قطع طهران وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، ومن خلال حصيلة القتلى المؤسفة التي بلغت 50 قتيلاً إلى وقت كتابة هذه السطور. وظهرت أيضاً بتوعد الجيش كل من يهدّد الأمن والاستقرار، وبحملة الاعتقالات الواسعة، وهذا ما وقع في بلدان الربيع العربي عند اندلاع شرارة ثوراتها، فهل هي بداية ربيع إيراني فارسي؟ سنرى، وإن غداً لناظره قريب.
العربي الجديد