ستبقى قضية وفاة الفتاة الإيرانية، مهسا أميني بأحد مراكز الشرطة في طهران، مثيرة للجدل ومادة للتراشق السياسي، وعنوانا لموضوع أهم، يُفترض أن يشغل بال الجميع: ما مدى احترام العالم المعاصر لأرواح البشر وحقوقهم وحرياتهم؟
من المؤكد أن وفاة شابة في مقتبل العمر في مثل هذه الظروف سبب للغضب والتقزز، ومن الضرورة بمكان التعاطي الموضوعي مع هذه المسألة وعدم الانسياق وراء المشاعر الجيّاشة او الوقوع في شباك الدعاية خصوصا إذا انطلقت من المحسوبين على تحالف قوى الثورة المضادة التي تستهدف شعوب المنطقة في سيادتها وحرياتها العامة وحقوقها المشروعة. لقد طرح الجانب الإيراني جانبه من الرواية بقدر من التفصيل، ونشرت جهاته المعنية بالحادثة مقاطع مرئية للحظات الأخيرة من حياة الفتاة التي كانت قد استدعيت لأحد مراكز شرطة الآداب بعد نزعها الحجاب متحدية السلطات. والواضح من موقف السلطات الإيرانية تنصلها من أية مسؤولية عن وفاة مهسا أميني. وفي المقابل أثيرت القضية على الصعيد العالمي على مستويات عدة، وحظيت باهتمام خاص من التغطية الاعلامية والتصريحات الرسمية التي شارك فيها الرئيس الأمريكي شخصيا. ويعتقد الإيرانيون أن ذلك يأتي ضمن خطة تشارك فيها أطراف عديدة لإضعاف النظام الإسلامي الحاكم في إيران وإسقاطه. وهذا ليس أمرا جديدا بل معروف منذ انتصار الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني ضد نظام الشاه. وأظهر هذا التفاعل الغربي الواسع مساحة واسعة من اختلاف وجهات النظر والمواقف السياسية والأيديولوجية بين إيران والغرب. وبعيدا عن التأييد او التنديد، يتطلب الموقف أن يتم التعاطي مع الأمر بعقلية فاحصة ترتكز على الحقائق التالية:
الأولى: أن للدول قوانينها التي يفترض أن تحظى باحترام الآخرين إذا كانت مدعومة من شعوب تلك الدول، ومؤسسة على معتقداتها الدينية والثقافية. أما التمرد الفردي فيجب أن يتم التعامل معه عبر القضاء وليس بقوة السلاح وعقلية الانتقام ونزعة القتل. فهناك احترام عام لقوانين البلدان، يراعيها الضيوف الأجانب حتى لو كانوا ملوكا او أباطرة.
ثانيها: أن للمرأة حريتها للمطالبة بحقوقها الشخصية، ومنها الحق في الحياة والطعام والسكن والأمن السياسي والحماية من العنف الأسري والعمل والمشاركة في الحياة العامة ضمن ضوابط المجتمع وأخلاقه وقوانينه. ولها حقوق أخرى تتداخل مع حقوق المجتمع، وهنا يصبح القانون المتوافق عليه بين المواطنين حاكما على الجميع. ومن حق أي مواطن، رجلا او امرأة، الاعتراض على تلك القوانين، بالأساليب المشروعة المتاحة، ومن حقها السعي لاستمالة آخرين لها. هذا الحق مكفول في المجتمعات المحكومة بأنظمة حكم مستقرة ومقبولة من مواطنيها ومحكومة بقوانين تحظى بتوافق عام. ويعتبر لباس المرأة أحد الإشكالات في المجتمع المعاصر، لا يزال موضع جدال حتى في المجتمعات الغربية. فحق المرأة (وكذلك حق الرجل) في اختيار اللباس ليس مطلقا، بل محكوم باعتبارات عديدة ترتبط بالموروثات الثقافية والدينية.
ثالثها: أن الجهات المسؤولة عن تطبيق القوانين محكومة هي الأخرى بقوانين وضوابط ترسم الحدود بين سلطاتها وحقوق المواطنين، فإذا تجاوزت حدودها أصبح للقضاء مجراه، وهكذا تتواصل حياة المجتمعات ضمن توافقات تضمن الحدود والحقوق، وتمنع الفوضى والتمرد.
من المؤكد أن وفاة شابة في مقتبل العمر في مثل هذه الظروف سبب للغضب والتقزز، ومن الضرورة بمكان التعاطي الموضوعي مع هذه المسألة وعدم الانسياق وراء المشاعر الجيّاشة او الوقوع في شباك الدعاية
رابعها: أن حياة الإنسان مقدسة يجب أن تحظى باحترام ورعاية من المجتمع الدولي ومن الحكومات وكذلك من الأفراد، فلقد خلق الله هذه النفس وكرّمها، كما جرّم إزهاقها بدون حق: «ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق» أي في إطار القانون الذي يفترض أن يمارس العدالة. واعتبر إزهاق روح واحدة بمثابة قتل الناس جميعا. ويُفترض أن توفر الشرائع البشرية حصانة للبشر، خصوصا المستضعفين منهم. ولكن ما أكثر الأرواح التي تزهق بدون حق، تارة بالتعذيب من قبل الطغاة، وأخرى بالإعدام بعد محاكمات صورية جائرة، وثالثة بالتجويع من خلال الحصار الذي يفرضه «الكبار» على البلدان المغلوبة على أمرها خصوصا إذا رفض حكامها الانصياع لإرادتهم. كما تُزهق الأرواح عبثا من قبل القتلة والمجرمين والمهرّبين وقطّاع الطرق، بل حتى من أفراد العصابات الإجرامية العاملة في مجال المخدرات. ويُعتبر القتل السياسي من أبشع أصناف القتل، لأنه يتم بإرادة حكومات قادرة على عدم القيام به.
خامسها: أن الموقف من القتل العمد بغير حق يجب أن يكون منطلقا من اعتبارات إنسانية وليس سياسيا. فليس من الأخلاق التشبث بانتقاء المواقف، وتأسيسها على الانتماءات الأيديولوجية والسياسية، بل يتطلب الإنصاف والعدل أن يكون رفض القتل غير القانوني والعبثي والإجرامي بروح واحدة ومشاعر متشابهة، وأن لا يتم التعاطي معها لاعتبارات مصلحية او ذرائع ظاهرية تستبطن دوافع أخرى. فمن غير الأخلاق التماهي مع قتل المعارضين من قبل الأنظمة، سواء في مصر ام سوريا أم البحرين أم أي بلد آخر يبحث أهله عن الحرية والعدالة والأمن.
سادسها: يفترض أن يؤسس المرء لنفسه موقفا خاصا به، وليس متأثرا بالأجندات السياسية لدى الجهات التي توجه مواقفها بدوافع سياسية بعيدة عن الاعتبارات الإنسانية. ومع الأسف فقد أصبحت غالبية البشر خاضعة لتأثيرات الإعلام التضليلي الموجّه خصوصا الذي تمتلكه دول «العالم الحر». ولا شك أن للدولار النفطي دوره في توجيه الإعلام لخدمة أهداف سياسية، فالإعلام سلاح فاعل في الصراع الإيديولوجي المحتدم.
سابعها: يفترض أن يتساوى الاهتمام بأرواح كافة البشر، فليس هناك روح أغلى من أخرى، ولا إنسان أهم من غيره، بل من حق الجميع أن يعيش آمنا على نفسه وعرضه وماله، وأن لا يتعرض لأذى من أحد. يتساوى في ذلك الشابة الإيرانية المذكورة، والفلسطينيون الأربعة الذين قتلتهم قوات الاحتلال في يوم واحد الأسبوع الماضي. وسواهم من الشباب والأطفال الذين يقتلون بوتيرة يومية من قبل قوات الاحتلال.
ثامنها: أن ردة الفعل هي الأخرى يفترض أن تكون منسجمة مع الحدث، وأن لا تكون هناك انتقائية مقززة. ردة الفعل الغاضبة تجاه وفاة الشابة الإيرانية تفوقت كثيرا على ردود الفعل إزاء قضايا مماثلة تحدث بشكل متكرر. ففي أمريكا ما أكثر الذين يقتلون بأيدي أجهزة الأمن والشرطة من السود. وبرغم الضجة التي حدثت في إثر قتل جورج فلويد في مايو 2020 تواصلت المعاملة السيئة للعناصر السوداء، وقتل العديد منها. كما تحصد آلة الموت أرواح المسلمين خصوصا في الجنوب الأمريكي. ففي ولاية نيومكسيكو قتل أربعة مسلمين على الأقل في كبرى مدن الولاية خلال الاثني عشر شهرا الماضية. ونادرا ما يلازم هذه الحالات حملات إعلامية على نطاق واسع.
هذه السياسة لا تخدم الأمن والسلم الدوليين أبدا، كما لا تؤسس لإنسانية تعم هذا الكوكب يشعر البشر فيها بالأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. هذه السياسات التي تتسم بالانتقائية والازدواجية إنما تساهم في تكريس منحى القمع والاضطهاد والتنكيل بحق الأبرياء.
القدس العربي