مع استمرار الاحتجاجات التي تعم المحافظات الإيرانية ودخولها الشهر الثالث، يتصاعد الحديث حول احتمال استنساخ التجربة الإيرانية والتأثر بها من قبل الدول التي تحظى طهران بنفوذ واسع فيها مثل العراق، وإمكان أن يؤدي ما يجري في إيران إلى تحفيز العراقيين على الخروج في احتجاجات واسعة كما حصل في أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
وقد تسهم احتجاجات إيران والضغوط الدولية الكبيرة على إثرها في إضعاف سطوة طهران وتأثيرها في الداخل العراقي إلى حد ما، والذي ربما يعيد تشكيل احتمالات اندلاع احتجاجات جديدة.
وتتباين وجهات النظر في هذا الشأن، ففي حين يرى مراقبون أن ما يجري على الساحة الإيرانية سيقلل فاعليتها في العراق، يعتقد آخرون أن نظام المرشد الإيراني علي خامنئي يعتمد على سياسة تصدير أزماته إلى الخارج في مسعى لتخفيف الضغط عليه، وهو ما يعززه القصف الأخير الذي قام به الحرس الثوري الإيراني على مواقع في إقليم كردستان العراق.
استشعار للأخطار
وبالتوازي مع هذا المشهد تتزايد التساؤلات حول إمكان أن يمتد “السخط على العمائم” إلى العراق، خصوصاً مع تحميل العراقيين للأحزاب الإسلامية الموالية لإيران مسؤولية الكوارث التي حلت بالبلاد منذ الغزو الأميركي عام 2003 وحتى الآن.
ويبدو أن استشعار أخطار تمدد موجة “استهداف العمائم” إلى العراق من قبل التيارات الموالية لإيران كان باكراً، إذ قامت منصات على صلة بتلك التيارات بحملة مضادة على وسائل التواصل الاجتماعي، وشملت الحملة وسوماً عدة من بينها “العمامة تمثلني” إضافة إلى مشاهد مصورة لشبان يقبلون عمائم رجال دين.
وتعطي تلك الحملات انطباعاً عن حجم المخاوف التي تعيشها تلك التيارات الموالية لإيران، إذ إنها تأتي في وقت لم تسجل فيه أية حالات مشابهة في العراق.
ولا يستبعد العديد من المراقبين احتمال انتقال حمى الاحتجاجات الإيرانية إلى العراق بـ “تمظهرات مختلفة تؤدي الغرض نفس”، من خلال التعبير بشكل واضح عن رفض الإسلام السياسي كعنوان يتصدى لقيادة البلاد.
وبعد غياب دام طويلاً عن المشهد السياسي عاد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر للتعليق على الاحتجاجات الإيرانية وتحديداً ما يتعلق بـ “إسقاط العمائم” التي باتت إحدى وسائل الاحتجاج في الداخل الإيراني على حكم الخامنئي ورجال الدين للبلاد.
وعلى رغم ما يعانيه الصدر خلال الفترة الأخيرة من حلفاء طهران على الساحة العراقية، عبّر بشكل واضح عن مخاوفه من انتقال حراك “إسقاط العمائم” إلى العراق، واصفاً ما يجري بأنه يمثل “تعديات وقحة”.
وقال في تغريدة عبر “تويتر” إن “هذا الهجوم ضد رجال الدين والحجاب قد يمتد إلى دول أخرى”.
ويرى مراقبون أن ما يجري في إيران لا يمثل استهدافاً للعمامة كعنوان ديني كما يحاول النظام الإيراني تصويرها، بل تمثل حال احتجاج على ما تمثله تلك العمامة من رمزية سياسية في ظل حكم المرشد الإيراني علي خامنئي.
وفي سياق ردود الفعل على ما يجري في إيران، نسبت تصريحات لصهر المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني ووكيله في إيران جواد الشهرستاني، قال فيها إن “هذه الاضطرابات الأخيرة ليست شعبية بأي شكل من الأشكال، وهؤلاء مجموعة من الأوباش الذين لا يعرف من أين أتوا ومن هو العدو الذي يوجههم”، متهماً الحكومات الغربية بالتآمر ضد شباب إيران.
ولم يتأخر مكتب السيستاني في إصدار بيان ينفي وجود أي وكيل يعبر عن وجهات نظر المرجع السياسية، وقال المكتب، “ننوه إلى الجميع بأن سماحة السيد السيستاني دام ظله ليس لديه أي وكيل يعبر عن مواقفه السياسية”.
سخط على العمائم
ولا يمكن المرور على بيان مكتب السيستاني من دون الحديث عن الإشكالات العميقة بين مرجعية النجف في العراق وولاية الفقيه في إيران، إذ يرى مراقبون أن طهران تحاول بأية وسيلة جمع أكبر عدد من المراجع ورجال الدين ورؤساء الأحزاب الإسلامية بالضد مما يجري داخلها.
ويقول الباحث في الشأن الإيراني أحمد الياسري إن اسقاط العمامة في إيران يمثل “فعلاً سياسياً ضد ما تمثله من عنوان سلطوي”، مبيناً أن ما يجري يؤشر بشكل واضح إلى التحول في وعي الشباب الشيعي الذي بات يرسل رسائل إلى العالم بأن “رجال الدين لم يعد لهم حضور مركزي في ذهنية تلك المجتمعات”.
ويعتقد الياسري أن “مرجعية السيستاني تدرك أن ما يجري يمثل سخطاً على العمامة في المساحة السياسية”، وهذا الأمر هو الذي يجعلها “لا تبدي تفاعلاً سلبياً مع الأحداث في إيران”، مؤكداً أن السيستاني مستمر في “وضع مسافة واضحة بينه وبين الخامنئي”.
ويلفت أن التنويه الذي أصدره مكتب السيستاني يمثل موقفاً صريحاً مفاده بأن الأخير لن يصدر أي مواقف داعمة لإيران، لأنها ربما تحسب من قبل أتباعه بوصفها “تحولاً في رؤية مرجعية النجف حول ولاية الفقيه”، مبيناً أن السيستاني “يريد الحفاظ على منهجية حوزة النجف في عدم دخولها كطرف في النزاعات السياسية”. ىأما في شأن تصريحات الصدر فيشير الياسري إلى أنها تحمل شقين، الأول يتعلق بـ “محاولات الصدر مغازلة إيران الموتورة في هذا التوقيت لعدم إثارتها بالضد منه”، أما الآخر فيرتبط بكون الصدر “يمثل واجهة تيار إسلامي قد يتضرر من أي حراك تكون غاياته تغييب التدين السياسي عن فضاء إدارة البلاد”.
ويوضح أن الصدر “يسعى من خلال جميع تحركاته إلى أن تبقى محركات الاحتجاج بيده وألا تزاحمه فيها أية جهات مدنية، وهذه المعادلة هي التي تدفعه لمثل تلك التصريحات”.
موجة محتملة ضد الاستبداد الديني
وعلى رغم تشابه وتشابك الوضع العراقي مع ما يجري في إيران، إلا أن عقبات عدة قد تعوق إمكان إعادة إنتاج مشاهد إسقاط العمائم في العراق، لكن هذا الأمر لا يمنع أن يتمظهر السخط على أحزاب الإسلام السياسي بأشكال مختلفة.
ويرى الياسري أن هناك موجة عامة في منظومة المجتمعات الشيعية في المنطقة “بالضد من فكرة الاستبداد الديني الذي تعيشه”، وهو ما بدا واضحاً في الاحتجاجات التي حصلت عام 2019 في جميع مساحات نفوذ العمامة الإيرانية وتحديداً في العراق ولبنان، لافتاً إلى أن ما يجري الآن “ينذر بموجة جديدة في العراق ولبنان”.
ويبدو أن الإشكالات في بلدان النفوذ الإيراني لم تعد محصورة بفكرة تحميل الميليشيات مسؤولية عمليات الفساد والقتل، كما يعبر الياسري، إذ “تتشكل مساحة الصراع الحالية على أرضية عزل فكرة الإسلام السياسي عن منظومة الحكم”.
وربما يسهم غياب الاستقطاب الطائفي في المنطقة خلال السنوات الأخيرة في تحفيز حراك اجتماعي وسياسي في العراق ولبنان أيضاً، لعزل العمامة من السلطة السياسية، خصوصاً أن إيران استغلت كل مراحل الاستقطاب الطائفي في تعزيز نفوذها وتضخيمه.
حراك يهدد فاعلية طهران في المنطقة
ودفع التعامل العنيف لطهران مع الاحتجاجات زعماء الاتحاد الأوروبي وكندا إلى إعلان درس فرض عقوبات على شخصيات بارزة في الحرس الثوري الإيراني، وهو ما يعني مزيداً من العزلة لإيران في وقت تحاول إعادة إحياء الاتفاق النووي وتخفيف الضغوط الاقتصادية عليها.
ولم تتوقف حملة الحكومة الإيرانية في قمع الاحتجاجات عند حدود الداخل الإيراني، إذ أعلن وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي في الـ 16 من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي أن بلاده اعتقلت “عدداً من عملاء المخابرات الفرنسية خلال الاحتجاجات”.
وعلى إثر ذلك قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في ختام قمة زعماء مجموعة العشرين، “أرى عدوانية متزايدة من جانب إيران تجاهنا بأخذ رهائن”.
ووصف الرئيس الفرنسي القصف الإيراني الذي استهدف إقليم كردستان العراق بأنه “أعمال عدوانية للغاية في الأيام القليلة الماضية على الأراضي العراقية”، فيما حث إيران على “العودة للهدوء وروح التعاون واحترام الاستقرار الإقليمي وكذلك المواطنين الفرنسيين”.
وفي سياق متصل يعتقد الباحث في الشأن السياسي مصطفى ناصر أن ما تعانيه طهران في الفترة الحالية “يؤثر بشكل كبير في فاعليتها في العراق وبقية بلدان النفوذ في المنطقة، بدليل أننا نشاهد قصفاً متسلسلاً للحرس الثوري على مقار الحزب الكردي الإيراني المعارض، على رغم الرفض الدولي لتلك الهجمات”، مبيناً أن هذا الأمر سيؤدي إلى “تسريع العقوبات المرتقبة الأوربية على إيران وإضعاف آخر آمال المفاوضات الخاصة بالملف النووي”. وإضافة إلى ملف الاحتجاجات يسهم السخط الأوروبي على روسيا في زيادة تعقيد موقف إيران، خصوصاً مع إعلان مشاركة الطائرات المسيرة الإيرانية في ضرب الجيش الأوكراني.
ويرى ناصر أن “إضعاف فاعلية الحرس الثوري سيؤدي إلى طرح مساحة أكبر للتحركات الدولية في الداخل العراقي من أجل خلق موازين قوى معتدلة الكفة في بلد يعجز عن تنظيم وترتيب فوضاه”.
السيستاني يحرج خامنئي
وفي شأن تصدير مشهد “إسقاط العمامة” إلى العراق، يعتقد ناصر أن “الظروف مختلفة بين البلدين، إذ في مقابل كون العمامة حاكمة فعلية في إيران، يتصدر السيستاني الذي لا يؤمن إطلاقاً بتدخل رجال الدين في السياسة ولا يؤمن أيضاً بولاية الفقيه المشهد العمائمي في العراق”.
ويشير إلى أن “السخط العراقي ليس على مرتدي العمائم بشكل مباشر بل على دعاة الإسلام السياسي من المنتمين إلى الأحزاب الإسلامية والمؤمنين بفكرة الأحزاب والتيارات الإسلامية التي تتدرج في فرض الهيمنة بعيداً من الحوزة العلمية في النجف”.
ويتابع أن “الضغوط الإيرانية هي التي دفعت الشهرستاني إلى إطلاق تصريحاته الأخيرة، في مسعى منها لإعلان موقف سياسي لا يرتضيه السيستاني”، مبيناً أن طهران كانت تتوقع “عدم رد السيستاني على هذا الإعلان، على اعتبار أن الاحتجاجات الإيرانية سوّقت على أنها ضد ارتداء الحجاب”. ويختم أن بيان مكتب السيستاني “وضع خامنئي في موقف حرج إزاء المتدينين المذهبيين ممن يقلدون السيستاني في إيران”.
وفي المقابل يقول المدون حسين تقريبا وهو طالب دراسات حوزيوية سابق، إن تصدر زعماء الميليشيات والأحزاب الإسلامية في العراق لمشهد العمامة في العراق يمثل “المحرك الأكبر لسخط الجمهور على العمائم”.
ويلفت أن كثيراً من الشيعة العراقيين باتوا ينظرون إلى هؤلاء المعممين بوصفهم “متورطين في كوارث كبيرة في البلاد”.
ويعتقد أن إعلان زعماء الميليشيات أنفسهم حماة للطائفة مع غياب الأصوات المعترضة عليهم بشكل صريح من داخل المشهد العمائمي هو المحفز الأكبر لـ “النقمة على العمائم بوصفها عناوين صريحة للإشكالات التي تعانيها البلاد منذ 20 سنة”.
اندبندت عربي