تسعى الدول العظمى لاستغلال الفرص كافة التي تُحيل ميزان القوة لصالحها، ومن هنا يأتي التنافس المحموم بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى على النفوذ في القارة الافريقية. والقمة الصينية العربية ومن ثم القمة الأمريكية الافريقية، هي عناوين واضحة لهذا الصراع، فالهدف النهائي لكي تصبح المهيمن هو أن تكون القوة العظمى الوحيدة في النظام الدولي.
ويبدو أنّ النفوذ الصيني ينمو على حساب الولايات المتحدة، وسينتهي بالاستبعاد النهائي للوجود الأمريكي من الإقليم، ما إن تُتاح للصين فرصةٌ مناسبةٌ لذلك. وكل التصورات الواقعية تجعل من الصين الصاعدة حتما قوّة تعديلية في بنية النظام الدولي، وبالإضافة إلى التدهور الحاصل في العلاقات بين روسيا والغرب، فإنّ هناك علامات مقلقة عن صراعٍ محتمل مع الصين، التي تعزم على تغيير الوضع القائم المتعلّق ببحر الصين الشرقي، وبحر الصين الجنوبي، وتايوان، والحدود الصينية الهندية، وليس مفاجئا أن تكون الولايات المتحدة الآن مهتمّةً أكثر باحتواء الصين.
أهم تنمية جيوسياسية في القرن الحادي والعشرين تتمثل في تحوُّل الصين إلى دولة عظمى لها ثِقلها في النظام الدولي، وحتّى إن لم تصبح الصين وروسيا قوى عظمى مهيمنة، وبقي العالم أحاديّ القطبية، فسوف يستمر النظام الليبرالي في التهاوي بسبب عيوبه الجوهرية، فمع الصين أو من دونها، النظام الدولي الليبرالي مُقدّرٌ له السقوط، لأنّ ولادته كانت مَعيبةً ومُشوَّهَةً على نحوٍ مميت بتوصيف ميرشايمر. وسوف يكون هناك ملمحان أساسيان للعالم الجديد متعدّد الأقطاب يشكلان على نحو عميق الأنظمة الصاعدة. أولاً، بافتراض استمرار الصين في صعودها المثير للإعجاب، فإنّها سوف تنخرط في منافسة أمنية شديدة مع الولايات المتحدة، وسوف يكون ذلك بمثابة السِّمة المركزية للسياسة الدولية على مدار القرن الحادي والعشرين، وسوف يقود هذا التنافس إلى خلق أنظمة محدودة يُهيمن عليها من طرف الصين والولايات المتحدة، وستكون التحالفات العسكرية المركّب المركزي لهذين النظامين، وهما الآن بصدد التشكّل. على نحو يشبه النظامين اللذين قادهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في الحرب الباردة. ويُمكن للنظام الأيديولوجي أيضا أن يصل إلى النهاية بطريقة ثانية، إذ يُمكن لقوى عظمى جديدة أن تصعد، وهو ما من شأنه أن يُقوّض الأحادية القطبية، ويؤدّي إلى هيكلٍ ثنائي أو متعدّد الأقطاب. في هذه الحالة، سوف يُعوّض النظام الأيديولوجي بأنظمة واقعية محدودة أو دولية. وكما يرى ميرشايمر، فإنّ التنافس بين النظامين المحدودين اللذين تقودهما الصين والولايات المتحدة سوف يُورّط كلاهما في منافسة اقتصادية وعسكرية تامّة، مثلما كان الحال مع النظامين المحدودين اللذيْن هيمنت عليهما موسكو وواشنطن أثناء الحرب الباردة. وربما، يكمن الاختلاف الكبير هذه المرّة في أنّ النظام الدولي سوف يكون منخرطا بعمق في إدارة جوانب التنافس في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي لم يكن موجودا أثناء الحرب الباردة. أمريكا تعتبر أنّ الصين تنظر إلى افريقيا على أنها ساحة مهمة لتحدي النظام الدولي القائم على القواعد، وتعزيز مصالحها التجارية والجيوسياسية الضيقة، وتقويض الشفافية والانفتاح، وإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات الافريقية. ولهذا، ينظر الغرب إلى العلاقة الصينية الافريقية الناشئة بنوع من الخوف والحذر، وانزعاجهم يأتي من القوة الناعمة الآسيوية التي حلت محلهم في القارة السمراء. مع تأكيد بكين المتواصل أنّها «شريك استراتيجي وصديق مخلص» سيلعب دورا بناء في الشرق الأوسط، ويتجنب القيام بأي شيء يمس مصلحته الجيوسياسية، وهي لا تتدخل في السياسات التي تتبعها الحكومات الافريقية، إضافة إلى المساعدات المالية التي تقدمها الصين للدول الافريقية باسم التعاون المشترك والاقتصاد المتبادل، ومن الطبيعي أن تبحث دول القارة السمراء على مصالح مشتركة مع بكين، بين من يطلب استثمارات أكثر، ومن يطمح إلى مساعدات مالية لمواجهة الوضع الاجتماعي المتردي، ومن يريد من الصين أن تنقل له التكنولوجيات الحديثة.
لحظة الأحادية القطبية انتهت، الأمر الذّي يعني أنّه لا توجد فرصة للمحافظة على أيّ شكلٍ من أشكال النظام الدولي الليبرالي في المستقبل المنظور
بايدن سيحاول كما حاول سلفه أوباما أن يبين بأنّ القمة الأمريكية الافريقية تُظهر مدى التزام الولايات المتحدة تجاه افريقيا، وأنّها تؤكد على أهمية العلاقات بين بلاده والقارة الافريقية، من جهة زيادة التعاون بشأن الأولويات العالمية المشتركة، وأن القمة تساعد في تعزيز المشاركة الاقتصادية الجديدة، وتدعيم السلام والأمن، والاستجابة للتغير المناخي، وتعزيز الصحة الإقليمية والعالمية، ودعم الأمن الغذائي، والالتزام المشترك تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن كل ذلك لن يغير المعادلة الجديدة في افريقيا والشرق الأوسط ككل، وستبقى مجرد محاولة أمريكية من أجل الحفاظ على تأثيرها في مواجهة النفوذ الصيني والروسي في القارة. بينما تسعى الصين لقلب المعادلة، وترسيخ نفوذها في المنطقة الغنية بمصادر الطاقة، وتسحب روسيا البساط من تحت فرنسا، وترسخ أقدامها في مناطق نفوذ افريقية مهمة كانت حكرا على دول أوروبية استعمارية. ويبدو أنّ كل دولة عظمى ستمارس قوتّها المتنامية لإعادة تشكيل النظام الدولي الجديد وفقا لمصالحها. وسوف تسعى لإعادة كتابة القواعد في المؤسّسات الاقتصادية الراهنة للنظام العالمي لتحصيل نفوذ أكبر. وربما الميزة المهمة للصين وروسيا كذلك، هي أنّهما لم تكونا يوما دول احتلال لافريقيا، بعكس الغرب الذي ينظر له الأفارقة بوصفه محتلا غاشما، ووجوده في افريقيا يستهدف سلب ثرواتهم، واستنزاف خيرات بلدانهم لا غير. وبالمحصلة الجيواقتصادية، كل ما يحدث مرتبط بشكل عميق وممنهج، بصعود النيوليبرالية، أو هذه النسخة من المطالبة بالحريات، كما يسميها تشومسكي. وهي النسخة التي سلطت اهتمامها على الربح أكثر من أي شيء آخر، وأدخلت العالم في مرحلة من الكساد، لتعزيز نوعين من التفاوت الاقتصادي. النوع الأول هو التفاوت بين الطبقات داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، وثانيا التفاوت بين الدول الغربية التي لم تنفق بعد كل الامتيازات التي حظيت بها من الاستعمار، ودول العالم الثالث التي كانت ضحية هذا الاستعمار.
إن كان غرض واشنطن من القمة الأمريكية الافريقية احتواء النفوذ الصيني، انطلاقا من قاعدة أنّ القوة الاقتصادية تُعزّز القوة العسكرية، ما يقتضي شنّ منافسة أمنية في كلّ من المجالين الاقتصادي والعسكري على حدٍّ سواء. مع ذلك، لحظة الأحادية القطبية قد انتهت، الأمر الذّي يعني أنّه لا توجد فرصة للمحافظة على أيّ شكلٍ من أشكال النظام الدولي الليبرالي في المستقبل المنظور. والسؤال الذي يطرحه الواقعيون: أيّ شكلٍ من أشكال الأنظمة الواقعية سوف يُهيمن على المشهد في العالم الجديد متعدّد الأقطاب؟
القدس العربي