بعد مرور أربعة أشهر على الاحتجاجات، التي تشهدها إيران منذ منتصف سبتمبر (أيلول)، من المهم التساؤل عن أسباب إطالة أمد هذه التظاهرات التي تعد أكبر التحديات في وجه النظام حالياً، وكيف تعامل معها؟ وما الذي يجعلها تختلف عما سبق من اعتراضات خلال العقد الأخير؟ وما دلالاتها حول ما يشهده المجتمع الإيراني الآن ومستقبلاً؟
ورغم أن إيران شهدت موجات عدة من الاحتجاجات في العقد الأخير، حيث كانت هناك تظاهرات 2009، ثم موجة أخرى بدأت منذ 2017، فإن هذه المرة اختلفت احتجاجات الحجاب عن سابقاتها، سواء من حيث الدوافع أو المشاركين ونطاقها المكاني والزمني.
في عام 2009 اندلعت الاحتجاجات على خلفية فوز الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية، وكانت النتيجة مخالفة لتوقعات التيار الإصلاحي، الذي اتهم مؤسسات النظام بتزوير نتائج الاستحقاق، وكانت المواجهات بين الحرس الثوري والمواطنين من شباب الطبقة الوسطى الطامح إلى توسيع هامش الحريات والحقوق، واندلعت في ثلاث محافظات حضرية.
أما الاحتجاجات التي شهدتها إيران منذ 2017 على خلفية الأوضاع الاقتصادية الآخذة في التدهور، وتضاعف زخمها مع الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات، وشاركت فيها الفئات المتضررة اقتصادياً، ورغم أن الاحتجاجات لدوافع اقتصادية فإنها رفعت شعارات مناهضة للمرشد الإيراني والنظام السياسي بأكمله، كما نددت بالسياسة الخارجية لإيران الداعمة لسوريا واليمن ولبنان على حساب تحقيق منافع اقتصادية للمواطنين.
وخلال الأعوام 2017 و2018 و2019 و2020 اندلعت الاحتجاجات لأسباب عديدة، منها إلى جانب الدوافع الاقتصادية أسباب تتعلق بسوء الإدارة والفساد على غرار تلك المندلعة في المحافظات الحدودية، بسبب جفاف المياه وانهيار مبنى على عدد كبير من المواطنين، فضلاً عن حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية التي أخفق النظام في التعامل معها.
في حين أنه بالنظر إلى تظاهرات الحجاب التي اندلعت منذ أربعة أشهر وأكملت نحو 100 يوم منذ بدئها على خلفية مقتل فتاة بحجة مخالفة قواعد الزي الإسلامي، أصبحت هذه الاحتجاجات المستمرة من دون توقف أحد أهم التحديات التي تواجه النظام الإيراني حالياً في الداخل والخارج.
فقد استحوذت الاحتجاجات المناهضة للنظام في جميع أنحاء إيران على انتباه المجتمع الدولي، وتعد غير مسبوقة من حيث شدتها وكثافتها واتساعها وعمرها الزمني، واستمراراً لاتجاه مناهض للنظام بدأ في عام 2017، وهو اتجاه بدأ يوحد جميع شرائح المجتمع، بما يعكس تزايد الفجوة بين الشعب والنظام الإسلامي المتشدد الذي يحكم منذ 43 عاماً.
فقد تحوّلت الاحتجاجات لتصبح أكثر بكثير من مجرد حق خاص بارتداء الحجاب من عدمه، وتسبب مقتل فتاة إيرانية إثر تعذيبها في مركز الشرطة لمخالفتها القواعد الإلزامية لشكل الحجاب في خروج المواطنين في جميع المحافظات الريفية والحضرية للمطالبة بتقييد ممارسات ما يعرف بشرطة الأخلاق، التي دورها البحث في أخلاقية النساء والفتيات.
ورغم كون شرطة الأخلاق ليست جديدة، فإن تزايد دورها في المجتمع الإيراني، لا سيما مع مجيء إبراهيم رئيسي المحسوب على التيار المتشدد، الذي ينادي بالبعد من كل ما هو غربي، ومن ثم التزيد والتشدد في فرض قيود على المرأة في الشوارع والمؤسسات، حسب خطة وضعتها لفرض الالتزام بقواعد اللبس والحجاب في المؤسسات والهيئات.
وعلى وقع مقتل مهسا أميني خرجت التظاهرات لتشمل إلى جانب النساء الرجال بمختلف الأعمار وحتى من جميع المناطق الريفية والحضرية، وانضم إليها أيضاً العمال في مصانع تكرير النفط، كما امتد النطاق الجغرافي، ليشمل المدن الرئيسة والمحافظات التي تقطنها الأقليات البلوشية والكردية، ومن ثم فقد التحمت في تلك الاحتجاجات المطالب الحقوقية والنسوية والاقتصادية، وتلك الخاصة بالأقليات المهمشة والمحرومة.
ووفقاً لاستطلاع رأي أجرته مجموعة تحليل وقياس الاتجاهات في إيران “GAMAAN”، فإن الشباب ليسوا الفئة الوحيدة التي تعارض الحجاب الإجباري، وكشف الاستطلاع أن جميع الفئات العمرية في إيران موحدة في معارضتها للحجاب الإجباري، بتضامن غير مسبوق.
وبحسب الاستطلاع، يعارض 78 في المئة من الإيرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 سنة، و68 في المئة بين 30 و49 سنة، و74 في المئة ممن تزيد أعمارهم على 50 سنة فرض الحجاب الإلزامي، كما أن الرجال يدعمون المرأة الإيرانية، ويقفون ضد فرض الحجاب الإلزامي.
ووجد الاستطلاع أن 71 في المئة من الرجال و74 في المئة من النساء لا يوافقون على فرض الحجاب الإلزامي.
وكان المختلف في هذه الاحتجاجات انضمام ما يعرف بالجيل زد، وهو الجيل الذي ولد بعد عام 2000، المطلع على العولمة والإنترنت، واستشعر الفارق بين المجتمع الإيراني والمجتمعات الأخرى من حيث الحريات والانفتاح التكنولوجي، ومن ثم كان إصرار الأجيال الجديدة يشتد، لا سيما مع مقتل كثير من الأطفال وأجيال شابة.
وتعامل النظام الإيراني مع التظاهرات بالعنف والقمع، الذي امتد ليشمل الاعتقالات الجماعية وأحكام الإعدامات، حيث نفذت العقوبة على فردين، فضلاً عن قطع الإنترنت وعمليات الخطف والتعذيب والترهيب، ومع ذلك ظل الشعب الإيراني يقاوم بقوة، ويواصل بشجاعة احتجاجاته في الشوارع، ولم يظهروا أي علامات على التراجع.
أمر آخر أسهم في استمرار الاحتجاجات واختلافها عن غيرها وهو الدعم والتضامن الدولي الذي لاقته، فقد تراوح بين تضامن رسمي وغير رسمي من حملات دعمت حق المرأة والحرية، حتى إن شخصيات عامة دولية كثيرة أعلنت دعمها للمحتجين الإيرانيين، كما دعمت الحكومات الغربية الأميركية والأوروبية حق المواطنين في الاحتجاج، ونددت بقمع السلطات الإيرانية لها.
بل إن البعض فرض عقوبات على شخصيات وكيانات إيرانية، فقد حذر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من أن الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات الإيرانية خلال حملتها المستمرة ضد الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد ستكون لها عواقب على إيران، كما فرضت واشنطن جولة جديدة من العقوبات بسبب قمع التظاهرات، وعلى خلفية تورط إيران في إمداد روسيا بطائرات مسيرة إيرانية، استخدمت لاستهداف محطات الطاقة والبنية التحتية الأوكرانية.
وفي ظل الزخم الدولي وتزايد العقوبات، قال المدعي العام الإيراني إن بلاده حلت “شرطة الآداب”، البعض اعتبر أن هذا الإعلان مجرد حملة دعائية لإظهار المرونة من جانب السلطات، لا سيما أن الحجاب الإجباري ليس مجرد مسألة تتعلق بحقوق المرأة، بل يمثل إحدى الركائز الأساسية لحكم النظام.
ومن ثم فلا يمكن توقع أن يخفف النظام، خصوصاً في ظل حكومة متشددة وفترة يسيطر فيها المتشددون على كل مقاليد السلطة، وأن يتنازل عما يعتبره سمة للنظام الإيراني في مواجهة الغرب، أي إنه ربما لو جاءت حكومة مستقبلية محسوبة على ما يعرف بالبراغماتيين أو الإصلاحيين حينها يمكن تخفيف ملاحقة النساء في الشوارع على خلفية الزي.
ومع ذلك، وبينما تستمر الاحتجاجات بكثافتها وأمدها الزمني والمكاني، فيمكن القول، إنه حتى لو تمكّن النظام من قمعها ستظل احتجاجات الحجاب مؤشراً لتغيير حدث في المجتمع الإيراني نحو الرغبة في تحريره وتوسيع مظاهر الليبرالية، كما ستستمر شعارات التنديد بالمرشد الأعلى ورموز النظام لتتراكم في أذهان الأجيال الجديدة التي ليس لها أي ذكريات تمتد إلى الثورة الإيرانية والعقود التي لحقتها. ومن ثم فإن احتجاجات الحجاب تحولت من رمزية قمع المرأة إلى رمز لمقاومة النظام.
اندبندت عربي