اتّجار النظام السوري بمنشطات الكبتاغون يشمل سلسلة معقدة ومتنوعة من المستويات: رعاية الصناعة، وتحضير المنتج للتصدير، و«التفنّن» في إخفاء الحبوب، وتأمين طرق التهريب عبر سوريا ولبنان وتركيا؛ فضلاً عن عقد شراكات في ترويج البضاعة مع «حزب الله» اللبناني أولاً، ومع الفصائل والميليشيات المذهبية العراقية ومتعددة الجنسيات التي تتبع «الحرس الثوري» الإيراني. وهذه، وسواها مما ظهر إلى العلن أو تمّ تمويهه تحت أنشطة شتى، يجعل من كبتاغون النظام السوري، أو «جمهورية الحشيش» أو ّدولة المخدرات» أو سواها من تسميات باتت رائجة وصائبة التوصيف في الواقع؛ حالة فريدة في سمات عديدة، لا تشبه أيّ اتجار آخر على مدار تاريخ استغلال المخدرات في حروب ومخططات وألعاب أمم سبق أن مارستها دول وقوى عظمى.
الجانب الأول، المالي الصرف الذي يخصّ عوائد التجارة، تشير إلى أرقام مذهلة وفلكية: حجم التصدير يتراوح بين 25 إلى 30 مليار دولار أمريكي، وشحنات الكبتاغون التي تمت مصادرتها تشكل أقلّ من 10% من إجمالي التجارة، وتقرير معهد «نيولاينز» الأمريكي يسجّل قرابة 800 مليون حبّة كبتاغون صودرت خلال السنوات السبع الأخيرة، فكم بالمقارنة تبلغ مليارات الحبوب التي نجحت في عبور الحدود! هنا أيضاً، تبدو الأرقام صاعقة، بالملايين: 190 حبّة إلى السعودية، 98.3 إلى ماليزيا، 50 إلى داخل سوريا ومثلها إلى لبنان، 35.3 إلى الأردن…
الجانب الثاني هو أنّ غالبية التقارير الدولية التي تناولت كبتاغون النظام السوري، ومعظمها لا تنقصه الرصانة والمصداقية والتوثيق، تشير إلى أدوار مباشرة للفرقة الرابعة، التي يقودها عملياً ماهر الأسد الشقيق الأصغر لرئيس النظام؛ فإنّ العوائد تصبّ في الإنفاق على آلة الاستبداد والقمع وحفظ بقاء السلطة، ثمّ تغذية مختلف أنساق الاتجار والنهب والإفساد التي تديرها أطراف البيت الأسدي وشبكات أسماء الأخرس وحفنة من أعضاء الحلقة الضيّقة والمافيوزية الضالعة في الاستفادة من النظام وإفادته. في تعبير آخر، ليس لمليارات الكبتاغون أن تؤمّن للمواطن السوري ساعة كهرباء واحدة إضافية، أو تحدّ من انحطاط قيمة العملة الوطنية (6300 ليرة أمام الدولار)، أو تؤمّن بعض أدوية العلاج الضرورية من المعامل ذاتها التي تنتج الكبتاغون، أو حتى تجعل ربطة الخبز أفضل جودة أو أيسر تحصيلاً…
الجانب الثالث هو أنّ إغراق أسواق الجوار بملايين حبوب الكبتاغون لا يقتصر على تسميم المجتمعات في دول الخليج، وتشكيل رافعة ضغط سياسية وأمنية وصحية للتفاوض مع النظام أو حتى محاولة استرضائه؛ بل ثمة طموحات أوسع نطاقاً، في رأسها مسارعة هذه الدولة أو تلك إلى «التطبيع» مع النظام على أصعدة إقليمية أوّلاً، ثمّ استكمال ذلك بمساع لتبييض صفحته على أصعدة دولية. وإذا كان الابتزاز في أشدّ أصنافه ابتذالاً هو العنوان الأوّل خلف هذه المقايضة من جانب النظام، فإنّ المقايضين أمامه لا يفتقرون إلى محاصصة انتهازية تتذرع بحكاية الكبتاغون كي تستعيد علاقات مع النظام لا يلوح أنها انقطعت أصلاً.
جانب رابع هو أنّ مبادرة الكونغرس الأمريكي إلى صياغة مشروع قانون حول تفكيك ومحاربة كبتاغون النظام السوري، وتصنيفه تحت بند التهديد الأمني ضمن ميزانية الدفاع، قد لا تكون كاذبة أو شكلية؛ غير أنها ليست بعيدة عن ذرّ الرماد في العيون، وعن النفاق ذاته الذي حكم طويلاً سلوك الكونغرس تجاه تجارة ليست بنت اليوم أو الأمس القريب، وقد كانت لأجهزة الأمن الأمريكية المختصة بالمخدرات متابعة وثيقة لعمليات التهريب. وقد يذهب رأي إلى أنّ صدور مشروع القرار متأخراً خير من عدم إصداره أبداً، ما خلا أنّ الصانع/ التاجر هنا ليس سوى نظام المجازر والبراميل والأسلحة الكيميائية، تابع موسكو وطهران؛ وأنّ هذه التجارة متشابكة مع اعتبارات جيو – سياسية وأمنية إقليمية، أكثر تعقيداً من علاجها عبر حبر على… ورق الكابيتول!
القدس العربي