مكانة المسجد الأقصى المبارك ورمزيته مسألة بالغة الحساسية والأهمية والقدسية. لا فقط عند الفلسطينيين والعرب، على اختلاف طوائفهم، وعند عموم المسلمين بل أيضاً عند المؤمنين الحرصاء على حوار الأديان والحضارات وقبول الآخر في العالم. وليس جديداً أن يقتحم متطرفون إسرائيليون باحات المسجد قبل أن تخرجهم الشرطة. الجديد أن وزير الأمن القومي المسؤول عن الشرطة إيتمار بن غفير هو الذي قاد المقتحمين هذه المرة ضمن ممارسة الاستفزاز كسياسة رسمية. حتى عندما قام الجنرال أرييل شارون بالاقتحام في الماضي بما قاد إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية الثانية، فإن الرجل كان خارج السلطة. ومن الطبيعي أن يرتفع منسوب الغضب على الاحتلال الإسرائيلي وصولاً إلى انفجار الوضع، لكن تحويل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى صراع ديني ليس في مصلحة الفلسطينيين. فهو ما يريده بن غفير زعيم “القوة اليهودية” والمتطرفون الإسرائيليون. لماذا؟ لأن الفارق كبير بين الصراع على الأرض والصراع على السماء. فالصراع على الأرض له تسويات وحلول في النهاية سواء سياسياً أو عسكرياً أو بالأمرين معاً. أما الصراع على السماء، فلا تسويات ولا حلول وسط له لأنه أبدي. وهذا هو حلم الصهاينة الطامعين بكل فلسطين وما تيسر من الأرض العربية خارج فلسطين. وهو أيضاً ما يناسب جماعات الإسلام السياسي المتشددة لتحقيق مشاريع يخدمها العنف والإرهاب وتؤدي إلى مزيد من الخراب والقتل والفشل في النهاية.
ذلك أن القاسم المشترك بين ردود الفعل على الاقتحام، بصرف النظر عن التفاوت في درجات التنديد والإدانة والرفض والأسف، هو الدعوة إلى الحفاظ على الوضع القائم، والامتناع عن أي تصرف أحادي يخرقه، لكن الوضع القائم هو واحد من ظواهر المشكلة. فالمشكلة هي الاحتلال الإسرائيلي للأرض، والاحتجاج على إقامة المستوطنات في الضفة الغربية والجولان تفصيل لأن الأساس هو أن إسرائيل نفسها “مستوطنة كبيرة”. كذلك الغضب على اقتحام المقدسات. فالحفاظ على الوضع القائم تحت الاحتلال يعني التسليم بالاحتلال حتى تتغير الظروف، وربما تكريسه. حتى بنيامين نتنياهو، فإنه يدعي تحت الضغوط الكلامية في المنطقة والعالم أنه يلتزم بالحفاظ على الوضع القائم، مع أنه وافق على اقتحام بن غفير. والكل يعرف أن “الستاتيكو” ليس قابلاً للاستمرار، فإما تغييره على مراحل لمصلحة إسرائيل، وهذا ما تعمل له الدولة العبرية، وإما تغييره لمصلحة الفلسطينيين، وهذا ما يجب أن تعمل له السلطة الوطنية في الضفة وفصائل المقاومة في غزة، وما يعمل له حالياً بالفعل المقاومون الجدد في جنين ونابلس.
والسؤال هو كيف يتم تجسيد الانفجار الذي يهدد به الفلسطينيون والعرب؟ في شكل انتفاضة شعبية ثالثة سلمية أم في شكل مقاومة منظمة أم في شكل المقاومة والانتفاضة معاً؟ الحسابات ليست واحدة. فمن الصعب أن يتخلى عن الوضع الراهن الذين صار لديهم ما يخسرونه، سواء داخل السلطة أو داخل فصائل غزة. والرهان هو على جيل جديد من المقاومين، جيل يمارس كل أنواع الكفاح المسلح بما يجبر الاحتلال على التسليم بتغيير الوضع القائم لمصلحة الشعب الفلسطيني، ولا مجال للرهان على ضغوط دولية قوية، حيث تتمتع إسرائيل بعلاقات خاصة مع أميركا وجيدة جداً مع روسيا والصين. وكان من اللافت ما قاله الرئيس جو بايدن والرئيس فلاديمير بوتين من كلام موحد في تهنئة نتنياهو العائد إلى السلطة بأخطر حكومة متطرفة. حتى رسالة كبير الحاخامات يتسحاق يوسف لمطالبة بن غفير بالامتناع عن الذهاب إلى جيل الهيكل وكل منطقة فيه، فإنها لن تغير شيئاً. والمسألة ليست جولات من التقاصف الصاروخي لا تغير شيئاً في الواقع. المسألة هي تكون الأرض للفلسطينيين أو لا تكون. أما السماء فلا أحد يستطيع احتكارها. وأما الحروب الدينية، فإنها الطريق إلى العدم.
اندبندت عربي