في قراءة للأحداث الأخيرة في البيئة العربية وتسلسل وقوعها وترتيب أوضاعها، نرى أن إسرائيل قامت بهجومين في التاسع والعشرين من آذار/ مارس الماضي، وفي الأول من نيسان/إبريل الحالي على الساحة السورية فى سياق استهداف المواقع والأماكن والشخصيات الإيرانية وقادة الحرس الثوري الإيراني وحلفائهم ، تركز الهجوم الأول على مواقع حزب الله اللبناني فى ريف حلب وأدى إلى مقتل علي نعيم نائب قائد وحدة الصواريخ والقذائف في التشكيل العسكري للحزب، بينما كان نصيب الهجوم الثاني مقتل عدد من قادة الحرس الثوري المتواجدين في القنصلية الإيرانية بدمشق وأبرزهم العميد محمد رضا زاهدي، لتتوالى الأحداث حتى قيام إيران بهجوم بعدد من الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة إلى داخل العمق الإسرائيلي في 13 نيسان 2024 والتي لم تؤدي إلى خسائر في الأرواح والممتلكات، بل سقطت سبع صواريخ أصابت قاعدة نيفاتيم الجوية في صحراء النقب وأحد المطارات العسكرية في قاعدة رامون المخصص لطائرات إف 35، الأمر الذي أدى إلى تحويل أنظار المجتمع الدولي عن حالة التدمير الشامل في قطاع غزة ومعاناة أبناء الشعب الفلسطيني، وليشكل تحول في موقف الكونكرس ومجلس النواب الأمريكي الذي صوت في العشرين من نيسان 2024 على خطة مساعدات واسعة لصالح إسرائيل بقيمة نحو 26 مليار دولار، وحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو) من استخدام هذا الهجوم لتحقيق هدف مرحلي في نقل مستوى المواجهة العسكرية إلى مواجهة إقليمية ولكنه لم يتمكن من ذلك، بسبب المواقف الدولية التي لا تسعى الى امتداد المواجهة لتشمل إلى جانب غزة أقطار عربية أو جهات أخرى في منطقة الشرق الأوسط حتى وإن كانت ضمن محور المقاومة المدعوم من قبل إيران لأن هذا سيؤدي إلى استهداف حالة الأمن والإستقرار في المنطقة، رغم أن المفهوم العسكري يقودنا إلى اعتبار الحرب الإقليمية قائمة ولكن عبر حدود أذرع وشركاء النظام الإيراني في عملياتها المنطلقة من اليمن ولبنان وسوريا والعراق ولكنها تبتعد كثيرًا عن مواقف الدول وقراراتها السياسية والعسكرية، ولكن مرور الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية في أراضي عربية او بالقرب من حدودها يسبب في رفع درجة الشعور بالمخاطر الإيرانية وتقريب إسرائيل من تحقيق أحد أهدافها في محاولته إقامة حلف إقليمي عربي من أجل إيقاف الطموحات الإيرانية..
وهنا تختلف المواقف من الحرب الإقليمية، فإسرائيل ترى فيها فرصة لزيادة الحشد الأوربي والأمريكي لها ومعالجة أزماتها الداخلية وتوحيد صفوف المعارضة القائمة ضد التيار اليميني الذي يقودها نتنياهو وإبعاد العالم عن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية، مع الأخذ بالاعتبار ان الهجوم الإيراني لإسرائيل قد وفر لها معظم هذه الأهداف، وإيران ليست مستعدة لحرب إقليمية ولا ترغب فيها وأن حققت لها زخم شعبي إسلامي وعربي كونها تدرك مخاطر وتداعيات الحرب مع إسرائيل وطبيعة التوازنات العسكرية والأمنية بينهما والدور الأمريكي الذي سيكون في صالح دعم وبقاء إسرائيل كما حصل في التصدي للطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية التي انطلقت نحو العمق الإسرائيلي.
إن النظام الإيراني والقيادات العسكرية والأمنية في الحرس الثوري وفيلق القدس لا تريد الوصول إلى حافية الهاوية، العقيدة العسكرية الإيرانية قائمة على نقل أي مواجهة عسكرية خارج أراضيها وانها لا تستهدف أحداث اضرار بإسرائيل أو إزالتها من المنطقة كما كانت أحاديث مسؤوليها في ضربتها الأخيرة التي لم تسفر عن أي خسائر بشرية، بل كان الهدف الرئيسي هو الترويج لقدرتها على مهاجمة إسرائيل وتحقيق مفهوم الردع المقابل وكسب تأييد وحدة الساحات ضمن إطار محور المقاومة، ولهذا سارعت لإرسال عدة رسائل عبر الوسيط التركي والسويسري للإدارة الأمريكية لتعلمها أن ردها على إسرائيل سيكون محدود ورمزي ولا يستهدف أي مصالح وقواعد أمريكية في المنطقة.
ثم جاء الرد الإسرائيلي في 19نيسان/ إبريل الحالي مستهدفًا مدينة أصفهان بثلاث طائرات مسيرة وصاروخ موجه لتشعر الجانب الإيراني بقدرتها على الوصول إلى أهدافها داخل الأراضي الإيرانية واستهداف المواقع والمنشأت النووية، وهذا ما يؤكد حقيقة الأمر الذي أخبرت به إسرائيل الولايات المتحدة الأمريكية بأن ردها سوف لا يكون فعالًا استجابة للأتصالات الأمريكية.
إن المواجهة الثنائية بين إسرائيل وإيران أكدت على عدة مضامين أهمها أنها أعادة ترتيب وفهم قواعد الردع المتبادلة بين الطرفين ونجاح إسرائيل في استراتيجية الدفاع العسكرية وتحقيق عدد من المكاسب السياسية لها مع تحجيم حالة التصعيد دون أي إتساع لنطاق المواجهة والحيلولة دون وقوع أي أضرار جسيمة حتى في حالة تكرار الهجمات الإيرانية، حيث تجسدت حالة واقعية وقناعة راسخة بأن حالة الردع بين إسرائيل وإيران لم تتأثر وبقيت قواعدها ثابتة، بعد عدم اعتراف إسرائيل بتبني الهجوم على مدينة أصفهان وأن خطاب النظام الإيراني قد خلف أوهام عديدة لدى اتباعه بسبب الأقاويل التي كان يعلنها على قدرات إيران العسكرية.
جاء الموقف الدولي ليؤكد حقيقة الأهداف التي تعمل على منع تحول المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى حرب إقليمية شاملة، لان أي حرب لا تقع دون مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية وبدعم الدول الأوربية لإسرائيل وهذا ما لا يريده الإجماع الدولي الذي يسعى إلى تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط حيث مصالحه ومنافعه وأهدافه السياسية والإقتصادية ومستقبل حلفائه وشركائه، كما أن الأحداث أكدت قدرة إيران على حشد مئات الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة ولكنها بنفس الوقت اوضحت القدرة الإسرائيلية على مواجهتها وشن هجمات نحو العمق الإيراني وإمكانية الوصول للمنشأت والمواقع النووية واختراق المؤسسات الأمنية الإيرانية، وأن أقصى ما يمكن أن يفعله النظام الإيراني هو تحقيق فرض معادلة ردع جديدة في إيقاف العمليات العسكرية على قادة المليشيات والقيادات الأمنية والعسكرية للحرس الثوري الإيراني في سوريا ومحاولة إيقاف ( حروب الظل) التي قد تحقق لإيران ووفق ما يهدف اليه المرشد الأعلى علي خامنئي من حماية وتوسيع نطاق النفوذ الإيراني وبقاء النظام واستمراره في الحكم.
لهذا فإن من الممكن أن نرى تصاعدًا في مجال عودة حروب الظل بين إسرائيل وإيران عبر العديد من عمليات الاغتيال التي تستهدف قيادات عسكرية وأمنية وعلماء في الجانب النووي واستهداف منشأت عسكرية ونووية داخل العمق الإيراني، يقابلها عدد من الفعاليات العسكرية الإيرانية عبر وكلائها ومليشياتها في لبنان وسوريا واليمن والعراق واتباع سياسة دعم مستمرة وفعالة لهذه المليشيات في توحيد عملياتها داخل العمق الإسرائيلي دون أن تتحمل إيران أي تكلفة مباشرة، وأن الوقائع الأخيرة فرضت اتباع سياسة جديدة في اختبار حقيقة قوة الردع بين الطرفين، وهذه السياسة والمعادلة العسكرية ستؤثر في كيفية الرد أو الأبقاء على سياسة حرب الظل وضبط إيقاع المواجهة، فالرد الإيراني سيكون على المحك أمام أي فعالية حيوية إسرائيلية مماثلة لما حدث في استهداف القنصلية الإيرانية أو مواقع مهمة داخل الأراضي الإيرانية، وإيقاف الهجمات والعمليات العسكرية الإسرائيلية تجاه الأهداف الإيرانية سيجعل إيران تتحدث بأن ضرباتها الأخيرة قد حققت أغراضها وكانت ذات تأثير كبير وأنها قد حجمت الدور الإسرائيلي وفعاليات الأمنية والعسكرية، ولهذا فإن القادم من الأيام سيؤكد حقيقة الالتزام بقوة الردع بين الطرفين،مع انتظار فهم ما ستفعله الولايات المتحدة التي أدارت حتى الأن خلافًا إيرانيًا إسرائيليًا أمكن إيجاد حلول سياسية وأمنية له مع احتمالات بقاء حالة التصعيد في الأراضي الفلسطينية وقطاع غزة وجنوب لبنان قائمة، ما دامت قواعد الأشتباك السابقة قد زالت،وأن إمكانية ظهور قواعد بديلة انها في طور الإعداد.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتبجة