القضية الفلسطينية وثنائيات الموقف الإيراني

القضية الفلسطينية وثنائيات الموقف الإيراني

في موقف يقع على الجهة المقابلة للموقف الرسمي المعلن للنظام الإيراني، بخاصة الرؤية التي يعتمدها المرشد الأعلى حول آليات الحل للقضية الفلسطينية، يأتي كلام المندوب الدائم لـ “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني خلال كلمته التي ألقاها على هامش جلسة الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي خصصت للتصويت على منح دولة فلسطين العضوية التامة والكاملة في الجمعية، ليقدم قراءة مختلفة عن قراءة المرشد التي تعتبر أكثر واقعية وأقرب إلى حقيقة الموقف الذي يمثل المسار الذي تعتمده إيران في التعامل مع التطورات التي تشهدها منطقة غرب آسيا، وتحديداً إقليم الشرق الأوسط بعد عملية “طوفان الأقصى” والحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة بهدف القضاء على حركة “حماس” وإنهاء حكمها وسلطتها.

هذه الثنائية في المواقف بين رؤية المرشد الذي يتولى مهمة تحديد ورسم السياسيات الإستراتيجية للنظام، وبين كلام مندوب إيران في الأمم المتحدة المنسجم والمتناسق مع المواقف الدولية المعتمدة، قد لا يكون من السهل تصنيفها في خانة تناقض المواقف بين المرشد وممثله في الأمم المتحدة، وأن التفسير الأقرب إلى الواقع لهذا التنوع أو الثنائية يكمن في أن بنية العقل السياسي الإيراني لم تخرج عن الثنائيات التاريخية التي حكمت الحركة الفكرية والدينية والثقافية لشعوب الهضبة الإيرانية، أي يمكن اعتبار أن هذه الثنائية في الموقف استمرار طبيعي للموروث الثقافي والفكري والديني الذي قام على مصفوفة ثنائيات تحكم بحركة الكون والوجود، وصولاً إلى الحركة الاجتماعية والسياسية التي امتازت بها العقيدة الدينية التي كانت منتشرة في الهضبة الإيرانية ما قبل الإسلام “الزرادشتية”، وأساسها ثنائية “أهورا مازدا – سيد الحكمة” مع “أهريمان – إله الشر”، ومنهما تتفرع الثنائيات الأخرى مثل ثنائية النور والظلام والخير والشر والعدل والظلم والملائكة والشياطين والجنة والجحيم، فمنذ بداية هجوم “طوفان الأقصى” الذي بدأته حركة “حماس” ضد المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، والحرب الإلغائية والتدميرية التي شنتها تل أبيب ضد قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لم يترك المرشد الأعلى للنظام في إيران فرصة أو مناسبة للتذكير بالرؤية التي يعتبرها الحل الأنسب للأزمة الفلسطينية والقائمة على حل الدولة الواحدة، بناء على المحددات التي يعتبرها هو الأقرب إلى الديمقراطية والواقعية، أي إجراء استفتاء حول طبيعية السلطة والنظام وشكل الدولة في فلسطين بمشاركة السكان الأصليين من مسلمين ومسيحيين ويهود، وما يخرج عنه يكون ملزماً لهؤلاء السكان والمجتمع الدولي، وأن النظام الجديد له حرية تقرير مصير المهاجرين اليهود، إما بالسماح لهم بالبقاء أو العودة من حيث أتوا.

وعلى الجهة الأخرى لهذه الرؤية يأتي السلوك السياسي والدبلوماسي للدولة الإيرانية المعبرة عنه أو التي تتولى ترجمة السياسات الإستراتيجية لقائد النظام، والتي تكشف عن رغبة إيرانية في توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي بأن النظام ودولته لا يرغبان في الخروج عن السياق القائم دولياً في التعامل مع الأزمات التي تعيشيها أو تواجهها المنظومة الدولية، ومنها القضية الفلسطينية، والتي ظهرت من خلال التصويت على القرارات التي صدرت عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة بعد أن واجهت اعتراضاً أسقط التصويت عليها في مجلس الأمن الدولي، وليس آخرها قرار الاعتراف بالعضوية التامة لدولة فلسطين.

هذا المسار الذي اعتمدته “الجمهورية الإسلامية” منذ السابع من أكتوبر 2023 في التعامل مع تطورات الأزمة الفلسطينية يكشف عن توجه لدى القيادة الإيرانية أو منظومة القرار فيها، بأن سلوكاً متمايزاً عما هو معلن من مواقف ذات بعد أيديولوجي وعقائدي، ليكون أكثر انسجاماً مع متطلبات الانفتاح والتعاون مع المجتمع الدولي وسياساته العامة، ولعل ما جاء من مواقف في كلام مندوب إيران في الأمم المتحدة أخيراً بعد جلسة التصويت على عضوية دولة فلسطين يشكل تعبيراً عن هذا السلوك الجديد، فصيغة القرار الذي تقدمت به دولة الجزائر نيابة عن المجموعة العربية لم يكن متعارضاً مع قرارات الأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية، بخاصة الجانب المتعلق بإقامة هذه الدولة بناء على قرارات هذه الجمعية التي تؤكد حل الدولتين، لذلك فإن التصويت الإيراني ودعم هذا القرار لم يخرج عن السياق الأممي، أي أن هذا التصويت جاء أولاً منسجماً مع الرؤية التي تعتمدها الأمم المتحدة في قراراتها التي تنص على تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة باسم فلسطين وثانية باسم إسرائيل.
وثانياً أن التصويت الإيراني يتضمن اعترافاً عملياً بدولة إسرائيلية، ومطالبتها بالانسحاب من أراضي الدولة الفلسطينية التي أقرها قرار التقسيم، وثالثاً المطالبة الإيرانية بإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس يعني أن هذه الدولة لن تكون على كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، بل إلى جانب دولة أخرى هي إسرائيل، فالمصطلح الذي استخدم في القرار المصوّت عليه حدد هذه الدولة على كامل الأراضي المحتلة، أي في سياق منسجم مع القرارات الأممية التي تعني الأراضي المحتلة بعد حرب عام 1967، وليس كامل فلسطين من البحر إلى النهر.

رابعاً، إن كان الموقف الإيراني يرفض الاعتراف بدولية إسرائيل فإن تأكيد القرار الأممي اعتبار القدس عاصمة لهذه الدولة الفلسطينية سيكون من باب لزوم ما لا يلزم، لجهة أن هذه المدينة كانت و لا تزال العاصمة التاريخية للدولة الفلسطينية، إلا أن هذا التأكيد على إقامة دولة فلسطينية بعاصمة القدس يعني اعترافاً ضمنياً بوجود خلاف مع طرف ما، وهو الإسرائيلي، حول هذه المدينة والعاصمة.

خامساً، أن التأكيد الإيراني على حصول الدولة الفلسطينية على كامل حقوقها الأساس، وبخاصة حق تقرير المصير واستقلالية الدولة وسيادتها وعودة اللاجئين، لا يخرج عما جاء في جميع قرارات الأمم المتحدة حول هذه القضية وآليات الحل المقترحة.

سادساً أن التأكيد الإيراني على إعلان وقف إطلاق نار دائم في الحرب التي تشنها تل أبيب على قطاع غزة يعني ضمناً اعترافاً بأن هذا العدوان القائم يأتي من طرف من المفترض أن يكون خاضعاً لمقررات الأمم المتحدة ضد طرف آخر معتدى عليه وبات معترفاً به من غالبية دول هذه المنظمة الأممية بواقع 143 دولة.