كيف ترى روسيا ورطتها الكبرى في أوكرانيا

كيف ترى روسيا ورطتها الكبرى في أوكرانيا

يرى دميتري ترينين، أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز كارنيغي في موسكو، أن روسيا أخطأت بشدة في تقدير الرد الغربي على غزو أوكرانيا. كما فشلت التهديدات النووية في ردع الغرب عن دعم كييف، لكن بالنسبة للكرملين لا سبيل للعودة عن الحرب في أوكرانيا.

ويقول ترينين إن الاستسلام للغرب سيؤدي إلى فقدان روسيا السيادة واحتمال زوالها، فيما يبقى المسار الوحيد أمام الرئيس فلاديمير بوتين هو التمسك باحتلال أوكرانيا باستثناء غربها ودمج الأراضي في روسيا.

وأثبت الردع النووي، الذي اعتمدت عليه القيادة الروسية كضمان لحماية مصالحها الحيوية بشكل موثوق من التعدي الخارجي، عدم كفايته. فلم تمنع تحذيرات الرئيس الروسي من العواقب في حال قررت الدول الغربية التدخل في الصراع الأوكراني، المشاركة النشطة والفعالة للولايات المتحدة والدول الأعضاء في الناتو في تسليح الجيش الأوكراني وتدريبه، مع توفير معلومات استخباراتية لكييف ومساعدات مالية واقتصادية وتقنية واسعة النطاق. بمعنى آخر، لم تمنع التهديدات التدخل النشط في الحرب.

وواجهت روسيا أمرا لم تكن تتوقعه أبدا، وهو تجميد احتياطيات العملات الأجنبية السيادية ومصادرتها، والاستبعاد عمليا من المعاملات المالية بالعملات الغربية. ونتيجة لذلك، لم تفقد الدولة نصف احتياطيات البنك المركزي فقط، بل إمكانية الوصول إلى الأسواق الغربية أيضا.

ولم يتحقق بالتالي التوقع بأن اللاعبين الاقتصاديين الغربيين، الذين يعملون لمصالحهم الخاصة، سيخففون من عواقب الصدامات الجيوسياسية.

الغزو أصبح في الأساس اختبارا لروسيا نفسها، وكشف عن مشاكل خطيرة في الإستراتيجية والتكتيكات السياسية والعسكرية

وكان انهيار علاقات الطاقة مع أوروبا خيبة أمل مؤلمة بشكل خاص لموسكو. ويُنظر إلى هذه الروابط، التي أنشأتها القيادة الروسية ورعتها على مدى خمسين عاما، بما في ذلك أثناء الحرب الباردة، على أنها ضمان للعلاقات المستقرة بين روسيا وأوروبا (على عكس العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث لا يوجد شيء من هذا القبيل). وحاولت روسيا ترسيخ صورتها كمصدّر للطاقة موثوق إلى الاتحاد الأوروبي بكل طريقة ممكنة. كما اعتمدت البلاد على افتراض عدم وجود بديل تجاري لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.

وكان الكثيرون في موسكو يعتمدون على “سلاح الطاقة” الروسي، أي فرصة لإغلاق “صمام الغاز” من شأنها أن تمنع أوروبا من قطع العلاقات مع بلادهم.

وخاب هذا التوقع أيضا. حيث قرر الاتحاد الأوروبي بمنطق سياسي بحت التخلي عن واردات النفط والفحم الروسي وفرض قيود (تنص على حظر تدريجي لواردات الغاز)، مما كسر رابطة مادية رئيسية بين روسيا وأوروبا. وجاء تدمير خط أنابيب نورد ستريم عبر عمل تخريبي في سبتمبر 2022 بما يرمز إلى انهيار العلاقات.

وليس لروسيا الأن أي حلفاء في الغرب لأول مرة في تاريخها، إذ إنها تفتقر إلى المحاورين القادرين على لعب دور الوسطاء وما إلى ذلك. كما أنها تشهد نهاية الحياد التقليدي لعدد من الدول الأوروبية.

وأصبح الغزو في الأساس اختبارا لروسيا نفسها. وكشف عن مشاكل خطيرة في الإستراتيجية والتكتيكات السياسية والعسكرية، وفي تدريب وتسليح وتجهيز القوات المسلحة، وفي استعداد البلاد للتعبئة (بما في ذلك استعداد الصناعة)، وفي البعد الأيديولوجي لسياسة الدولة، وفي سلوك جزء من النخب وفئات المجتمع.

وتقوض هذه المشاكل مجتمعة عزيمة حلفاء روسيا وتشجع خصومها، مما يدفعهم إلى طرح أهداف أكثر حسما تصل إلى “الحل النهائي للمسألة الروسية”، من خلال إلحاق الهزيمة الإستراتيجية بالبلاد وتغيير النظام فيها، مع نزع السلاح اللاحق (بما في ذلك نزع السلاح النووي)، وإعادة التشكيل الجغرافي والسياسي، وإعادة التثقيف واستبدال النخب. وستكون النتيجة التهميش الكامل لروسيا (أو ما تبقى منها) في الساحة الدولية.

سيناريوهات الصراع

لا توجد طرق للعودة، بل يوجد مسار نظري للاستسلام لن يعيد روسيا إلى فبراير 2022، و هذا الطريق كارثة وطنية

تغير وضع السياسة الخارجية الروسية بشكل كبير، لكنه ليس ميؤوسا منه بأي حال من الأحوال. لا توجد طرق للعودة، بل يوجد مسار نظري للاستسلام لن يعيد روسيا إلى العشرين من فبراير 2022. ويعتبر هذا طريقا إلى كارثة وطنية، وفوضى محتملة، وفقدانا غير مشروط للسيادة.

ويقول ترينين “إذا كنا نرغب في تجنب مثل هذا السيناريو مع ضمان الوصول إلى مستوى أعلى نوعيا من التفاعل مع العالم المحيط، لا يمكن أن يكون الاتجاه المشترك سوى إلى الأمام”.

وبالنظر في جميع السيناريوهات التي يمكن أن يتطور فيها الصراع الحالي، يشمل هذا خسارة الحرب أو الانتصار الذي يحمل مخاطر الاضطرابات مجددا.

لكن تجنب الهزيمة لا يعني النصر، حيث يعني سيناريو تجميد الأعمال العدائية على طول الخطوط الأمامية أن موسكو تعترف بعدم قدرتها على تحقيق الأهداف المعلنة لغزوها، أي هزيمتها المعنوية.

كما أن مثل هذا التجميد سيكون مجرد فترة راحة تسبق على الأرجح استئناف الأعمال العدائية على يد خصم لا ينوي التخلي عن أهدافه القصوى. ومع ذلك، يبقى هذا الخيار موجودا، وتعمل عليه الأطراف المعنية كما يبدو.

ويوجد كذلك سيناريو النجاح الإستراتيجي. وستعتبر سيطرة روسيا على الأجزاء الشرقية والجنوبية والوسطى بأكملها من أوكرانيا نجاحا إستراتيجيا.

وسيتطلب هذا السيناريو موارد هائلة وجهودا مستهدفة على مدى سنوات عديدة وتضحيات كبيرة. ومع ذلك، سيكون الفوز ممكنا من الناحية الإستراتيجية.

ولن يعني أي حل للنزاع الأوكراني إقامة وضع راهن مستقر في أوروبا الشرقية. وسيستمر الضغط الغربي على روسيا في المنطقة الأوروبية في عدة مسارات. وسيشمل اتجاهات بيلاروسيا وترانسنيستريا وكالينينغراد والقوقاز، بالإضافة إلى المسار الأوكراني نفسه الذي سيظل النقطة المؤلمة الرئيسية. ويجب على موسكو حينئذ تعزيز موقفها على طول الخط الأمامي الجيوسياسي الغربي بأكمله، من القطب الشمالي إلى البحر الأسود، من أجل تحمل مثل هذا الضغط.

ما بعد الحرب في أوكرانيا

Thumbnail

يرى ترينين أن “التمزق” في العلاقات الروسية – الغربية لا يمكن إصلاحه، ولا سبيل إلى التراجع فيه، وأن أمام روسيا مواجهة صعبة مع الغرب لفترة طويلة قادمة.

وتخاطر هزيمة روسيا في هذا الصراع بحدوث كارثة وطنية، ومن غير المرجح التوصل إلى حل وسط مستدام، في حين أن التسوية على قدم المساواة مستبعدة عمليا. يبقى الخيار الوحيد المتبقي هو المضي قدما.

وتسعى روسيا إلى تحقيق استقلال سياسي واقتصادي وعسكري أكبر على المسرح العالمي وتأكيد هويتها الخاصة في إطار الحضارة العالمية، فيما يبقى تطوير التعاون السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والإعلامي والثقافي والإنساني مع دول الأغلبية العالمية الاتجاه الأكثر أهمية لسياسة روسيا الخارجية في المستقبل المنظور.

وفشلت الدول الغربية في تحقيق العزلة السياسية العالمية لروسيا، لكنها تمكنت من تعبئة المؤسسات الدولية لصالحها. فبالإضافة إلى السيطرة على أجهزة هذه المؤسسات، نجح الغرب في الحصول على أغلبية الأصوات المؤيدة لقرارات مناهضة لروسيا.

ونتيجة لذلك، تحولت المنظمات الدولية، التي لعبت موسكو في إنشائها دورا نشطا والتي لعبت فيها دورا رائدا لفترة طويلة معتبرة أنها أسس نظام عالمي عادل، الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ضد روسيا.

وكان الحضور الفعلي للممثلين الروس في منتديات هذه المنظمات يعتمد على قرارات السلطات الأميركية والأوروبية. وتعرض وضع روسيا، كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، للهجوم، بينما تواصل التحايل على حق النقض الروسي في المجلس عن طريق نقل القضايا إلى الجمعية العامة.

العرب