جيمي كارتر غيّر وجه الشرق الأوسط ويستعد للرحيل

جيمي كارتر غيّر وجه الشرق الأوسط ويستعد للرحيل

قد لا يعلم كثيرون في المنطقة العربية أن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لا يزال على قيد الحياة ويتمتع بقدر من الرشاقة الذهنية، رغم أن عمره على وشك أن يبلغ القرن، وقد لا يعلم هؤلاء أن الرجل الذي لعب دورا مهما في تغيير وجه الشرق الأوسط بإشرافه على توقيع أول اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل قرر التوقف عن تناول الدواء وعدم الذهاب مرة أخرى إلى المستشفيات.

وتبدو قصة كارتر نموذجا للكثير من السياسيين الأميركيين الذين يبذلون بعد تقاعدهم جهودا في العمل الإنساني والحقوقي ونشر ثقافة السلام، غير أن الفرق بين كارتر وغيره ممن سبقوه في مكانه أو لحقوا به هو أنه كان صاحب تجربة سياسية ثرية، فالسنوات الأربع التي أمضاها في البيت الأبيض حفلت بمجموعة من التطورات المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وجعلته علامة بارزة في تاريخها.

وزاد الحديث عن الرجل في الكثير من وسائل الإعلام الأميركية إثر قيام مركز كارتر بإصدار بيان السبت حول حالته الصحية، أُعلن فيه أن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر دخل رعاية المسنين المنزلية في بلينز بجورجيا، وهو يبلغ من العمر 98 عاما، ويعد أطول رئيس أميركي عمرا.

وذكر بيان المركز أن كارتر قرر بعد سلسلة من الإقامات القصيرة في المستشفى “قضاء الوقت المتبقي من حياته في المنزل مع أسرته وتلقي رعاية المسنين بدلا من التدخل الطبي الإضافي”.

المزيد من الخصوصية

يحظى الرئيس الأميركي التاسع والثلاثون في سلسلة الرؤساء الذين تناوبوا على حكم الولايات المتحدة بدعم كامل من فريقه الطبي، وطالبت عائلته بالمزيد من الخصوصية في هذا الوقت، وتعبّر عن امتنانها للعديد من محبيه لما أبدوه من قلق على صحته.

وكان كارتر حاكما غير معروف من جورجيا عندما بدأ محاولته لنيل الرئاسة قبل انتخابات 1976، واستمر في هزْم الرئيس آنذاك جيرالد فورد، مستفيدا من كونه غريبا عن واشنطن في أعقاب حرب فيتنام وتفجر فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون من منصبه عام 1974.

وحكم كارتر خلال فترة واحدة صاخبة هزمه إثرها المرشح الجمهوري والممثل السابق رونالد ريغان عام 1980، في خسارة كبيرة مهدت الطريق لعقود من مناصرته العالمية للديمقراطية والصحة العامة وحقوق الإنسان عبر مركز كارتر.

وافتتح الرئيس السابق وزوجته روزالين البالغة من العمر الآن 95 عاما المركز في عام 1982، ونال جائزة نوبل للسلام عام 2002 بفضل عمله ضمنه.

وقال حفيد الزوجين جيسون كارتر الذي يرأس الآن مجلس إدارة مركز كارتر في تغريدة له السبت “رأيتُ جدّيَّ أمس (نسبة إلى زمن القول السبت). إنهما في سلام. وكان منزلهما كالعادة مليئا بالحب”.

كارتر حكم وسط ضغوط الحرب الباردة وأسواق النفط المتقلبة والاضطرابات الاجتماعية بسبب العنصرية واضطهاد حقوق المرأة ودور أميركا العالمي

وسافر كارتر، الذي عاش معظم حياته في السهول، حتى بلوغ الثمانينات وأوائل التسعينات من عمره، وشملت مغامراته الرحلات السنوية لبناء منازل تابعة لمشروع من أجل الإنسانية، فضلا عن رحلات مندرجة ضمن مراقبة الانتخابات في مركز كارتر وجهوده للقضاء على داء دودة غينيا في البلدان النامية.

وتراجعت صحة الرئيس الأسبق على مدار العقد العاشر من حياته، وحدّ وباء كوفيد – 19 من ظهوره العلني، بما في ذلك في كنيسة “ماران أثا” المعمدانية، حيث كان يلقي دروسا في مدرسة الأحد لعقود أمام حشود من الزوار.

ونجحت عملية إزالة كتلة سرطانية صغيرة من كبد كارتر في أغسطس 2015، وأعلن في العام التالي أنه لا يحتاج إلى المزيد من العلاج، وأن عقارا تجريبيا قضى على أي علامة على الإصابة بالسرطان.

واحتفل كارتر بعيد ميلاده الأخير في أكتوبر الماضي مع العائلة والأصدقاء في مدينة بلينز الصغيرة التي ولد فيها هو وزوجته روزالين في السنوات ما بين الحرب العالمية الأولى والكساد العظيم، كما احتفل مركز كارتر العام الماضي بمرور 40 عاما على تعزيز أجندته الخاصة بحقوق الإنسان.

وكان المركز رائدا في مراقبة الانتخابات ورصد ما لا يقل عن 113 عملية انتخابية في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا منذ 1989. وأبلغ مؤخرا، فيما قد يكون أحد أكثر جهود الصحة العامة حظوةً بالترحيب على نطاق واسع، عن 14 حالة بشرية فقط من داء دودة غينيا في 2021 بالكامل بفضل سنوات من حملات الصحة العامة لتحسين الوصول إلى مياه الشرب المأمونة في أفريقيا.

وشكّل هذا انخفاضا هائلا منذ أن شرع مركز كارتر في قيادة الجهود العالمية الرامية إلى القضاء على هذا الوباء في 1986، والذي أصاب 3.5 مليون شخص، وعبر كارتر ذات مرة عن أمله في العيش عمرا أطول من عمر آخر طفيلي من نوع دودة غينيا.

الصعود التدريجي

ولد كارتر في الأول من أكتوبر من سنة 1924 لعائلة بارزة في ريف جنوب جورجيا، والتحق بالأكاديمية البحرية الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية وواصل حياته المهنية بصفته ضابطا في البحرية خلال الحرب الباردة قبل أن يعود إلى بلينز مع روزالين وعائلتهما الصغيرة لتولي زمام الأعمال الاقتصادية العائلية بعد وفاة إيرل كارتر في الخمسينات.

وصعد الديمقراطي المعتدل كارتر سريعا من مجلس إدارة المدرسة المحلية إلى مجلس شيوخ الولاية ثم إلى مكتب حاكم جورجيا، وبدأ سباقه نحو البيت الأبيض باعتباره مستضعفا بابتسامة عريضة، وحمل أعرافا معمدانية صريحة وخططا سياسية تعكس تعليمه الهندسي.

ولقي الرجل قبول العديد من الأميركيين بفضل وَعدِه بعدم خداع الشعب بعد فضيحة نيكسون، وهزيمة الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا (حرب فيتنام).

وقال كارتر مرارا أثناء حملته الانتخابية، فيما يشبه التأكيد على مصداقيته، “إذا كذبت عليك يوما ما، إذا ألقيت خطابا مضللا، فلا تصوت لي”.

وكان الرئيس الأميركي الأسبق، الذي نشأ سياسيا خلال حركة الحقوق المدنية، آخر مرشح رئاسي ديمقراطي يكتسح الجنوب العميق قبل أن تنتقل المنطقة بسرعة إلى رونالد ريغان والجمهوريين في الانتخابات اللاحقة.

وحكم وسط ضغوط الحرب الباردة وأسواق النفط المتقلبة والاضطرابات الاجتماعية بسبب العنصرية واضطهاد حقوق المرأة ودور أميركا العالمي.

وقد حرر الرجل في الداخل جزئيا الضوابط التنظيمية لشركات الطيران والسكك الحديد والشاحنات وأنشأ إدارتي التعليم والطاقة والوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وعمل على تحويل ملايين الأفدنة في ألاسكا إلى متنزهات وطنية أو ملاجئ للحياة البرية، وسعى إلى تعيين عدد قياسي من النساء وغير البيض في المناصب الفيدرالية، ولم يُرشّح مطلقا للمحكمة العليا، لكنه رفع محامية الحقوق المدنية روث بادر غينسبورغ إلى ثاني أعلى محكمة في البلاد، ما جعلها في وضع مناسب للترقية في عام 1993.

وتضمنت انتصارات كارتر في السياسة الخارجية التوسط في اتفاقية السلام في الشرق الأوسط من خلال إبقاء الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على طاولة المفاوضات لمدة 13 يوما في 1978، وألهمت تجربة كامب ديفيد تلك مركز ما بعد الرئاسة، حيث أسس كارتر الكثير من إرثه.

ووقعت اتفاقية السلام في واشنطن في السادس والعشرين من مارس 1979 بعد مفاوضات ماراثونية رعاها كارتر بين الجانبين المصري والإسرائيلي، وعمل على إزالة جميع العقبات التي اعترتها، وسجل اسمه كأول زعيم أميركي وعالمي يكسر أحد أصعب المحرمات الإقليمية في المنطقة.

جاءت هذه الخطوة عقب التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وزيارة الرئيس السادات إلى إسرائيل قبل ذلك بعام في مفاجأة من العيار الثقيل أدت إلى إعلان دول عربية عديدة مقاطعة القاهرة، وتم نقل مقر الجامعة العربية منها إلى تونس.

وأبرز سمات معاهدة السلام الاعتراف المتبادل بين مصر وإسرائيل، ووقف حالة الحرب بينهما، والعمل على تطبيع العلاقات الدبلوماسية، وقيام إسرائيل بسحب جميع قواتها المسلحة والمدنيين من سيناء التي احتلت عام 1967، ونصت على تخصيص منطقة منزوعة السلاح على الحدود، وحرية مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس والاعتراف بمضيق تيران و‌خليج العقبة ممرات مائية دولية.

وبنى كارتر على انفتاح نيكسون مع الصين، وعلى الرغم من تسامحه مع الحكام المستبدين في آسيا دفع أميركا اللاتينية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية.

وانكسر ائتلاف كارتر الانتخابي بسبب التضخم الذي تجاوز العشرة في المئة وارتفاع ثمن البنزين وأزمة الرهائن في إيران، وكان أسوأ يوم في رئاسته عندما لقي ثمانية أميركيين مصرعهم في عملية إنقاذ رهائن فاشلة.

أزمة الرهائن

تعود القصة إلى قيام مجموعة من الطلبة الإيرانيين في نوفمبر 1979 باقتحام السفارة الأميركية في طهران، واحتجزوا نحو 60 رهينة، ردا على قرار كارتر السماح للشاه محمد رضا بهلوي الذي خلعته الثورة الإسلامية في إيران بالقدوم إلى الولايات المتحدة للعلاج.

وكشفت المعلومات اللاحقة أن الإيرانيين أرادوا وضع حد للتغول الأميركي في شؤونهم وتعزيز مكانة زعيم الثورة آية الله الخُميني، وإحراج كارتر قبل انتخابات الرئاسة، لذلك قيل إنها كلفته عدم إعادة انتخابه مرة ثانية عام 1980 وأظهرته كرئيس ضعيف، حيث أطلق الطلاب سراح الرهائن الأميركيين في الواحد والعشرين من يناير 1981 عقب 444 يومًا من الاحتجاز، وبعد ساعات قليلة من إلقاء ريغان خطاب التنصيب انتشرت شائعات تفيد بأن أعضاء طاقم حملة ريغان تفاوضوا مع الإيرانيين لعدم إطلاق سراح الرهائن قبل الانتخابات.

وتراجع كارتر إلى حد كبير على الصعيد الانتخابي بعد سنوات من خسارته، حتى أن الديمقراطيين كانوا مترددين في احتضانه، وصوره جمهوريون في خطاباتهم المناهضة بشكل كاريكاتيري باعتباره ليبراليا سيئ الحظ.

حكم كارتر في الواقع كتكنوقراط أكثر تقدمية في مجال العرق والمساواة بين الجنسين مما كان عليه في حملته الانتخابية، لكنه كان صقرا في الميزانية وغالبا ما أغضب الديمقراطيين الأكثر ليبرالية، بما في ذلك سناتور ماساتشوستس تيد كينيدي الذي خاض معركة أولية مدمّرة ضده في 1980.

وقال كارتر بعد تركه منصبه إنه قلل من أهمية التعامل مع سماسرة السلطة في واشنطن، بما في ذلك وسائل الإعلام وجماعات الضغط الراسخة في العاصمة، لكنه أصرّ على أن نهجه العام كان سليما وأنه حقق أهدافه الأساسية من “حماية أمن ومصالح الأمة الأميركية بشكل سلمي” إلى “تعزيز حقوق الإنسان في الداخل والخارج”، حتى أنه لم يتمكن من الفوز بفترة ولاية ثانية.

وأعرب كارتر عن رضاه عن حياته الطويلة عند تشخيص إصابته بالسرطان في التسعينات من عمره، وقال في 2015 “أشعر براحة تامة بخصوص كل ما يأتي. لقد كانت حياتي مثيرة ومليئة بالمغامرات وممتعة”.

العرب