في مثل هذه الأيام من عام 2003، غزت الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الحلفاء، العراق. كان الهدف المُعلن إسقاط النظام السياسي القائم فيه.. نزع أسلحة الدمار الشامل.. بناء نظام سياسي واعد، وديمقراطية جديدة مزدهرة. آنذاك وعد الجنرال الأمريكي تومي فرانكس قائد القيادة المركزية الأمريكية، بأن تكون وسيلة التغيير عملية عسكرية على شكل (حملة لا مثيل لها في التاريخ.. حملة تتميز بالصدمة والمفاجأة، وبتطبيق القوة الساحقة)، تنفيذا للأمر الصادر له من القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية جورج دبليو بوش، الذي قال (نادرا ما أتاح التاريخ فرصة أكبر لفعل الكثير لكثير من الناس)، لكن بعد عشرين عاما من الغزو والاحتلال، باتت تلك الفرصة لعنة تلاحق الولايات المتحدة، وأصبحت بُشرى الديمقراطية شيئا من نسج الخيال، وقبل هذا وذاك تبيّن أن أسلحة الدمار الشامل كانت فرية كبرى.
من أكبر جرائم الغزاة خلال العشرين عاما، أنهم جعلوا للطائفية وظيفة وهي أن تصبح جزءا من السياسة العراقية لأول مرة، من خلال إعطاء كل فريق طائفي حصة سياسية
واليوم ها هو البديل، نظام سياسي يقوم على الفساد والمحاصصة الطائفية والحزبية، والقمع والقتل وسرقة المال العام، وإذ يستذكر العالم كله جريمة غزو واحتلال العراق، هل يجرؤ أحد على فتح حقيبة العقدين من الزمن، التي مرت على العراقيين كي يرى ما فيها؟ وهل هناك من يتوقع أن ما يُسمى العالم المُتحضر سيخجل من هول الجريمة؟
يُفاخر الغزاة وأتباعهم بالعملية السياسية القائمة في العراق ويُعددون مناقبها بالقول، إن أحد منافع النظام السياسي الحالي هو وجود أيديولوجيات مختلفة، وعشرات من القنوات الفضائية، ومئات الصحف التي تُعبّر عن الرأي والرأي الاخر. ويضيفون أن العراق لم يعرف الحياة البرلمانية في الزمن الجمهوري، إلا في ظل العملية السياسية القائمة منذ الاحتلال وحتى اليوم، فهناك برلمان مُنتخب من الشعب، وحكومات محلية مُنتخبة أيضا تدير شؤون المحافظات. ويزيدون على ذلك بالقول إن هناك انتقال سلس للسلطة بعيدا عن النظام الأحادي، وهنالك فصل بين السلطات، وحراك سياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بعيدا عن أيديولوجية الحزب الواحد، ومحكمة اتحادية عُليا يذهب الساسة إليها لتقديم اعتراضاتهم وشكاواهم، ويصغون إليها في المنازعات التي تدور بينهم. أما المواطن فقد بات مرهوب الجانب من قبل الساسة، لأن من حقه النزول إلى الشارع في حراكات جماهيرية، محمية من قبل السلطات، معترضا على شؤون الحكم والحكّام، وأنه بات يعرف حقوقه وواجباته في ظل النظام الديمقراطي القائم، والدستور الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا فسّرها وتبنّاها، فهل حقا يعيش العراقيون في ظل جمهورية أفلاطون اليوم؟ يستطيع المُحتل أو أي سياسي أجير من أتباعهم، أن يختار إجراء تقييم للعقدين الماضيين منذ عام 2003 وحتى اليوم، وأن يقول ما يريد، من حقهم وبهدوء ومنهجية كاذبة وبعض المهارة المخادعة أن يقولوا إنهم بنوا منجزات وحققوا معجزات… من حقهم أن يعيشوا في خيالاتهم ويتحدّون كل من يعارضهم، فقد أمضوا عشرين عاما في تنمية شخصية الغازي الودود، والمحتل المحبوب، والعميل الموهوب القادر على خدمة أسياده والضحك على شعبه، وقللوا من أهمية التاريخ حين يكون شاهدا وقاضيا، فظنوا أن كل هذه دُفوع يتعكزون عليها، وأنهم قادرون على إيقاف عقارب الساعة والعبور من فوق الزمن، لكنهم ينسون أن الضرر الأكبر على الدفُوع المُقدّمة من قبلهم أمام محكمة التاريخ، عدم وجود حقائق على الأرض يعتمدون عليها، بل هناك جرائم لا يمكن التغطية عليها. صحيح أن صانعي السياسة الامريكيين وحلفاءهم من أقطاب الغزو، قللوا من أهمية التاريخ حين يكون شاهدا وقاضيا، وأداروا ظهورهم للتكاليف السياسية والأخلاقية والإنسانية في جريمة غزو واحتلال العراق، وخلف حجاب من الخطب الرنانة والأكاذيب والألاعيب المُخادعة، مارسوا خطيئة كبرى تفتقر إلى الشرعية في الداخل والخارج، لكن من هو القادر على أن يتشاجر مع تفسير العراقيين لمحنة يعيشونها يوميا منذ عشرين عاما؟ فإذا كان الغزاة يعتبرون أنفسهم قوى تاريخية لهم الحق في فرض إرادتهم على الآخرين، فإن شعب العراق هو إحدى البؤر الشعبية للتاريخ القادرة على فضح الزيف والجريمة.
لقد كان من أكبر جرائم الغزاة خلال العشرين عاما، أنهم جعلوا للطائفية وظيفة وهي أن تصبح جزءا من السياسة العراقية لأول مرة، من خلال إعطاء كل فريق طائفي حصة سياسية. ومع مرور السنين تغلبت الطائفية على الدستور والقوانين والأعراف، ثم أخذت مكانة الدولة وأصبحت حاضنتها، بل وتعطي الدولة من حصتها، وبذلك باتت فعلا سياسيا وليس فعلا انتمائيا للدين. وهذا هو ذروة الفشل الذي يعيشه العراق اليوم، حيث بهذا الفعل تحوّل من حالة الهوية إلى حالة اللاهوية، كما ضمرت وانحلّت الظاهرة الحزبية التي يتشدقون بوجودها، واقتصرت على زعامات سياسية صفّحت ذاتها بالميليشيات، وأشاعت حول نفسها من الأساطير حتى باتت من المقدّسات، لكنها فشلت في أن تؤدي وظيفتها الرئيسية، وهي أن تكون وسائط تمتص الرجات الكبرى في المجتمع، وبذلك لم تعد هنالك أحزاب بالمعنى السياسي المُتعارف عليه في علم السياسة، بل إن العمل السياسي والسياسة بمجملها لم تعد مهنة ثقافية، أو فعلا اجتماعيا ينهض به مثقفون ذوو مشروع للتغيير إصلاحي أو ثوري، وهو ما دفع الناس للانصراف عنها، وإلى انعدام الثقة بها. وقد امتد الشلل والانحطاط إلى وسائل الإعلام والصحافة والفضائيات، التي يباهون بأنها أصبحت بالعشرات والمئات خلال حقبة العشرين عاما، فكل هذه أصبحت مُرتهنة بالسياسة، وقد سحبتها السياسة إلى دروبها الموحلة، وجردتها من سلطاتها واستقلاليتها ونزاهتها، فباتت بلا أخلاقيات وفاقدة للمصداقية، وبذلك لم يعد الإعلام في العراق قائدا بل تابعا، بالتالي باتت السياسة تروّض الإعلام والإعلاميين، وبذلك سقط اليقين الذي كان الناس يعتصمون به حينما يريدون معرفة الحقيقة، كما أن القول بوجود برلمان وانتقال سلس للسلطة فهي فرية كبرى، لأن السلطة لا تُدار في هذه المؤسسات، بل تُدار في مؤسسات تقليدية أخرى هي مركز إدارة الشأن السياسي، وتتشكل من زعماء الكتل والأحزاب والميلشيات داخليا، وقوى دولية وإقليمية خارجيا، وبذلك فإن الحداثة السياسية التي يتبجحون أنهم جلبوها للعراقيين، ليست سوى قشورها، لكن السؤال الأبرز هو وماذا بشأن المواطنة؟ أين هي في العراق الجديد؟
ما من مواطنة من غير انبثاق من تربة الدولة الوطنية، لأنها هي البيئة السياسية الحاضنة. ومن يريد المواطنة كنظام اجتماعي وسياسي، فإن أولى الشروط لذلك هو بناء الدولة الوطنية، فلا وجود لمواطنة في دولة غير وطنية، والدولة الوطنية هي دولة المؤسسات القائمة على أساس العقد الاجتماعي، على الأسس الدستورية، على أساس حاكمية القانون، وعلى أساس الحقوق المدنية والسياسية، فهل وصل العراق خلال العشرين عاما الى الدولة الوطنية؟
القدس العربي