تعيش منطقتا الشرق الأوسط والخليج حراكا سياسيا ودبلوماسيا لم تشهد مثله خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة.
وراء هذا الحراك الدول المؤثرة في المنطقة، السعودية وتركيا وإيران وبدرجة أقل مصر. قبل سنوات قليلة مضت كان يستحيل تخيّل أي تقارب سياسي أو دبلوماسي بين السعودية وإيران، وبين تركيا ومصر، وبين عدد من الدول العربية وسوريا.
منذ عقود تعمل أمريكا على «شرق أوسط جديد» يحتضن إسرائيل، وإذا بالظروف تنحو نحو «شرق أوسط جديد» يضم إيران»!
فماذا قاد إلى هذا الحراك الذي سيترك تداعيات على التحالفات وخيوط الاختلافات؟
هناك عدّة عوامل إقليمية وأخرى بعيدة لا تقل تأثيرا.
محليا، من الواضح أن المنطقة، بقادتها وشعوبها، تعبت من الحروب والاضطرابات وباتت تحسد العالم على سيره نحو الأمام بينما هي غارقة في عُقدها وأزماتها التي لا تنتهي.
دوليا، يمكن الحديث عن الدور الأمريكي ثم التغييرات السياسية والاجتماعية في أوروبا تزامنا مع صعود قوى دولية على الأطراف مثل الهند والصين وغيرهما، وأخيرا الحرب في أوكرانيا.
كانت البداية مع وصول الرئيس دونالد ترامب ولجوئه إلى لغة مؤلمة في صراحتها، لا تُخفي أن الرجل لا يحترم المنطقة وقادتها بل يعتبرها مجرد بازار يسوّق فيه ما يشاء بلا اعتراض من أحد، ومجرد صرّاف آلي يسحب منه متى شاء وبقدر ما أراد. ناهيك عن صراحته حول أنه لن يخوض حروبا نيابة عن منطقة يراها كسولة ومتخلفة ترفض الاتكال على نفسها. وقد جسّد ترامب هذه القناعة عندما رفض ضرب إيران ردًّا على هجمات الحوثيين الخطيرة على منشآت نفطية في السعودية في منتصف أيلول (سبتمبر) 2019.
هذه الصراحة الفجّة وقلة الاحترام قادت منطقة الشرق الأوسط والخليج، وخصوصا الدول التي كانت تعتبر الولايات المتحدة حليفا أزليا مثل السعودية، إلى التساؤل: ماذا سيفعل بنا الديمقراطيون إذا كان ترامب حليفنا الجمهوري يزدرينا هكذا؟
ثم جاءهم الرد. لم ينتظر الديمقراطيون طويلا بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض لاتخاذ مقاربة مشابهة لمقاربة ترامب لكن لأسباب أخرى وانطلاقا من ذهنية مختلفة. عدا عن انزعاج السعودية ودول أخرى في المنطقة من قضايا الحقوق والحريات التي لوَّحت بها إدارة بايدن، هناك الارتباك الكبير الذي أظهرته هذه الإدارة في التعامل مع مشاكل المنطقة، على عكس صراحة ترامب، وإفراطها في الاهتمام بالصراع مع الصين ولاحقا الحرب في أوكرانيا على حساب حلفاء أمريكا التقليديين في هذه المنطقة.
يجب الاعتراف لإدارتي ترامب وبايدن بالفضل في استيقاظ قادة الشرق الأوسط والخليج، لأن مقاربتيهما كانتا بمثابة جرس إنذار يصبح من الخطير عدم الانتباه له أو تجاهله. الخدمة التي قدّمتها الإدارتان لدول المنطقة أنها ساوت في ازدرائها بين الجميع.. السعودية، تركيا، الإمارات، مصر، الأردن مع حرص على خنق أكبر لإيران وسوريا لأسباب معلومة.
سيكون من الخطأ الإفراط في التفاؤل بهذا الحراك المتعدد الاتجاهات والأوجه. الواقعية تتطلب الإقرار بأنه بقدر ما هو استثنائي، بقدر ما يحمل في ثناياه أسباب فشله إذا لم تتوفر الحنكة الكافية والتضحيات المطلوبة من كل الأطراف
وسط ذلك المخاض اندلعت حرب روسيا على أوكرانيا لتخلط الأوراق عبر العالم، لكن تحديدا في منطقتي الشرق الأوسط والخليج بسبب التجاذبات الاستراتيجية التقليدية فيها وغناها بالثروات النفطية والطبيعية، وحاجة كلّ من معسكري الصراع لكسب دعمها له.
بقدر ما كانت حرب أوكرانيا وبالاعلى أوروبا، شكّلت جرس إنذار في الاتجاه الإيجابي للقادة الخليجيين. كانت حرب أوكرانيا متنفسا لهؤلاء القادة على أكثر من صعيد. لقد منحتهم أولافرصة المناورة والتعبير عن استيائهم من الإهانات الأمريكية. ومنحتهم بديلا لا يقل قوة عن الغرب التقليدي يمكنهم التعامل معه في ظروف أفضل وبلا إهانات، هو معسكر روسيا والصين وعشرات الدول التي تسبح في فلكهما عبر العالم.
سيكون من الخطأ الإفراط في التفاؤل بهذا الحراك المتعدد الاتجاهات والأوجه. الواقعية تتطلب الإقرار بأنه بقدر ما هو استثنائي، بقدر ما يحمل في ثناياه أسباب فشله إذا لم تتوفر الحنكة الكافية والتضحيات المطلوبة من كل الأطراف. من نقاط ضعف هذا الحراك أنه ثمرة ضغط، مدفوع بالحاجة وليس بالقناعة. إيران مخنوقة بالعقوبات والوضع الداخلي غير المستقر. السعودية لم تعد تتحمل صاروخا واحدا من الحوثيين. الاقتصاد والوضع المالي في تركيا في حالة يُرثى لها. مصر لا يحركها شيء غير «الرز». النظام في سوريا يريد خروجا من عزلته سيكون بمثابة تتويج لما يعتبره انتصارا على معارضيه. الإمارات تريد أن تثبت لأمريكا أنها ليست كل شيء في هذا الكون.
هذا على الصعيد السياسي. على الصعيد العملي، هناك الكثير من العقبات ستقف في طريق هذا الحراك، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالسعودية وإيران، ومصر وتركيا. من الصدف الجيّدة (والسيئة في آن واحد) أن التطبيع (أو عدمه) بين الرياض وطهران سينعكس على أبعد من البلدين، وكذلك الأمر بالنسبة لأنقرة والقاهرة.
السعودية وإيران تفرّقهما خلافات سياسية ودينية واستراتيجية ليس من السهل تجاوزها. كما أن مسارح المواجهة بين البلدين شاسعة تشمل اليمن والبحرين والعراق وسوريا ولبنان، وحتما هناك مناطق وقضايا أخرى تشكل نقط خلاف.
تركيا ومصر عالقتان في الكثير من القضايا، أبرزها الإخوان المسلمون وليبيا وحقول الطاقة في البحر الأبيض المتوسط. وإضافة إلى السياسة الخارجية المصرية ليست مستقلة تماما وتُوجِّهها رياح الخليج، تبقى الملفات الخارجية التركية، ومنها التطبيع مع مصر، متوقفة على نتائج الانتخابات الرئاسية المقررة في تركيا أواخر أيار (مايو) المقبل.
كما سيتحتم على القادة العرب والخليجيين الذين قرروا خوض هذا الحراك أخذ في حسبانهم أن الولايات المتحدة لن تقبل بسهولة مناورات من وراء ظهرها في منطقة تعتبرها مضمونة لها منذ أكثر من سبعين سنة. هناك أيضا موقف إسرائيل التي لن تقبل إعادة تأهيل النظام الإيراني في المنطقة، ولن تبتلع بسهولة أن المنطقة فضّلت عليها إيران.
العزاء أن هذا الحراك ليس معزولا عمّا يجري في العالم بل هو جزء منه. وما يحدث في العالم يفوق أمريكا وإسرائيل ويحدث غصبا عنهما. وهو فرصة لن تتكرر بسهولة لو تعرف المنطقة الاستفادة منه لصالح الجميع.
القدس العربي