منذ أيام نشرت “مؤسسة غالوب” لاستطلاع الرأي نتائج استطلاع أجرته في 13 دولة ذات غالبية مسلمة حول أيهما أكثر شعبية السعودية أم إيران؟ وجاءت النتائج لتشير إلى أن إيران لا تحظى بشعبية كبيرة في الدول التي شملها الاستطلاع، باستثناء باكستان.
ربما من المفيد أن نقف على دلالات نتائج الاستطلاع التي قد تعطى مؤشراً إلى القيادة الإيرانية حول ما إذا كانت سياستها تسير في مسار صحيح يخدم مصالحها، أم قد تنتهي بالإضرار بتلك المصالح؟ وسيتم تحليل نتائج الاستطلاع استناداً إلى محدد مهم وهو سعي المشروع الإيراني إلى الهيمنة والتأثير في الشرق الأوسط الذي عبّر عنه الخطاب السياسي لكثير من القادة الإيرانيين، بخاصة التصريح الشهير للجنرال حيدر مصيلحي الذي تباهى فيه بوجود إيران في أربع عواصم عربية.
لذا تحاول المقالة قراءة نتائج الاستطلاع في ضوء مشروع إيران الإقليمي، وما وصل إليه، وبداية فقد شمل 13 دولة ذات غالبية مسلمة تمتد من المغرب إلى باكستان، وكان متوسط الموافقة على قيادة السعودية وشعبيتها في عام 2022 أعلى بكثير من القيادة الإيرانية، فقد بلغت 39 في المئة في مقابل 14 في المئة على التوالي.
المفارقة الأكبر كانت البلدان التي كان لإيران فيها التأثير الأكبر والانتشار، إذ مُنحت طهران أدنى درجات التأييد مما يعكس معارضة تلك الدول للحكومة الإيرانية لديها، فعارض العراق الحكومة الإيرانية بنسبة 86 في المئة، واليمن بـ 80 في المئة، ولبنان بـ 73 في المئة، وهي الدول التي عملت طهران جاهدة خلال العقود الأخيرة على تمدد نفوذها فيها، واتبعت إستراتيجيات متعددة الأبعاد من أجل تشكيل شبكات من العلاقات مع الفاعلين من دون الدول فيها أو خلق حكومات حليفة وصديقة.
وعلى رغم الإستراتيجية الإيرانية القائمة على ممارسة النفوذ والهيمنة في تلك الدول عبر أدوات عسكرية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية، فإن النتائج تقول إن طهران لم تحظ بشعبية وقبول لدى شعوبها، مما يعني أن محدداً مهماً في مشروع الهيمنة والتأثير الإقليمي الذي تسعى إيران إليه لم يتحقق، ألا وهو عامل القبول الإقليمي.
حينما خرج التصريح الخاص بوجود إيران في عواصم أربع دول عربية كانت الإشارة إلى تمدد نفوذ وتأثير طهران، واستناداً إلى أدبيات العلاقات الدولية التي تحلل سلوك القوى الإقليمية فإن اعتماد دولة ما ضمن أدواتها على الأداة الأيديولوجية يعني أنها تسعى إلى الهيمنة الإقليمية عبر استخدام وسائل القوة الناعمة، وتستهدف الدول من توظيف القوة الناعمة تحقيق مصالحها ولكن بكلفة أقل وعبر نسج شبكة علاقات داخل المجتمعات على النحو الذي يوحي بالترابط الأيديولوجي، بما يخلق حالاً من القبول لدى الدول التي تسعى القوة المهيمنة إلى التأثير فيها، ومن ثم تتشابه مصالح تلك الدول المسماة بالتابعة وتسير بالتزامن مع مصالح القوة الساعية إلى تحقيق الهيمنة، وبالتالي تحقق مصالحها بأقل كلفة في ظل القبول الإقليمي.
ويأتي كذلك القبول الإقليمي عبر انتقال القوة الساعية إلى تحقيق الهيمنة في سلوكها من الأنانية الحتمية إلى خلق بيئة مستقرة تعمل على تنميتها، وتستثمر الدولة المهيمنة مواردها من أجل استقرار النظام والحفاظ عليه، وترتبط جهود الاستقرار بتوفير المنافع العامة للدول التابعة التي تستفيد من مزايا الاستقرار والنظام الذي خلقه المهيمن.
ويجب أن تتمتع الدولة المهيمنة بالقدرة على إنفاذ قواعد النظام، وأن تتوافر لديها الإرادة للقيام بذلك، مع الالتزام بقواعد النظام الذي وضعته وتعتبره غالبية الدول منفعة متبادلة، وبالتالي فهناك سياق وظيفي لدور الدولة المهيمنة، إذ يرى أنها تسعى إلى بناء إطار يحمي القواعد والمؤسسات التي توفر النظام والاستقرار للاقتصاد العالمي، ولكن مع ضعف مكانة هذا المهيمن فإنه يسعى إلى استغلال النظام القائم لحفظ مصالحه على حساب الدول الأخرى.
ولتحقق دولة ما نفوذاً إقليمياً يحظى بالقبول من قبل الدول الأخرى سواء التابعة لها أو جيرانها في الإقليم فلا بد من شروط، وينبغي على الدولة الساعية إلى الهيمنة تأسيس نظام تستفيد منه الدول التابعة ودول الإقليم من جيرانها فتضمن امتثالها له، على أن يوافر هذا النظام منافع للإقليم مثل الأمن وتسهيل التبادل والتعاون الاقتصادي وبناء نظام يوفر المنافع العامة للنظام على النحو الذي يجعل هناك قبولاً ومشروعية.
وما لم تتوافر الشروط السابقة فستواجه القوى الساعية إلى الهيمنة والنفوذ شكوكاً، وأحياناً عداء ومقاومة خطابية من الآخرين، ويرجع ذلك إما لأسباب تاريخية أو للخوف مما يؤثر في التفاعلات داخل الإقليم، فمثلاً قد تتهم الدول أعضاء النظام الإقليمي الدولة الساعية إلى الهيمنة بأن سلوكها غير شرعي، ويتم اتباع سياسة المحاصرة والعزلة لها، وهنا تسمى الدولة الساعية إلى الهيمنة الإقليمية بالمنبوذ الإقليمي، وقد تكون منبوذة دولياً في الوقت ذاته.
وفي هذه الحال قد يتسم سلوكها بالعدوانية والتحالف خارج الإقليم، وأحياناً يحاول الساعي إلى الهيمنة لعب دور المدافع عن القيم والمعتقدات، وفي هذه الحال يعتمد على أيديولوجية يسعى إلى نشرها والدفاع عنها إقليمياً، ومن ثم يكون للمهيمن داخل الإقليم أتباع للأيديولوجية وأيضاً رافضون لها، باعتبارها تؤدي إلى التدخل في شؤونهم الداخلية.
وفي غياب التوافق والقبول الإقليمي في ما يتعلق بمشروعية دور الدولة الساعية إلى الهيمنة تزداد احتمالات عدم استقرار الإقليم، ومن ثم تعد القوة الإقليمية الساعية إلى الهيمنة في تصورات القوى الإقليمية الأخرى تهديداً للإقليم والأنظمة السياسية بداخله، بدلاً من كونها موفراً للمنافع العامة له.
ويمكن القول إن هناك عاملين مؤثرين في مدى قبول الآخرين لسلوك الهيمنة الإقليمية، فالأول توفير القوى الساعية إلى الهيمنة كل أشكال المنافع العامة للإقليم، والثاني كيفية ممارسة الدولة المهيمنة للقوة وتفاعلها مع الدول الأخرى، وتوفير الموارد والعمليات والسياسات والمؤسسات الضرورية لتحقيق أهداف محددة، مثل نقل المعرفة وجهود الدولة الساعية إلى الهيمنة لتقديم البنية التحتية للأمن الإقليمي من خلال تعزيز القدرات العسكرية.
وإذا ما جئنا لإيران فسنجد أن الدول التي تباهت بوجودها فيها لم تحظ داخلها بتلك الشعبية، لا سيما القبول الإقليمي وفقاً لنتائج “غالوب”، مما يعني سلبية الصورة الناتجة من الممارسات الإيرانية التي لم تخلق أي فرص استقرار في تلك الدول، لذا وبينما أثبتت إيران نجاحها إلى حد كبير في تعزيز حلفائها في الدول المجاورة، تظهر بيانات “غالوب” أن السعودية تحتفظ بمصدر نسبي من الدعم والشعبية لا تشاركه إيران.
اندبندت عربي