ارتفاع أسعار القمح بسبب تراجع المحصول هذه السنة يضع الحكومة المصرية في مأزق ويطرح تساؤلا عما إذا كان ذلك سيجبر السلطة على رفع أسعار الخبز في ظل توتر اجتماعي متزايد.
القاهرة – تواجه الحكومة المصرية أزمة جديدة هذا العام جرّاء عدم قدرتها على مجاراة أسعار القمح في الأسواق المحلية مع إقدام تجار ومستوردين على شرائه بأسعار تفوق ما حددته لتوريده إليها، ما يفتح الباب أمام تحريك سعر الخبز المدعم، المعروف بـ”العيش” في مصر، تماشيا مع زيادات ملحوظة في أسعار ما يسمى بـ”الخبز السياحي”، وإجراءات سابقة تمهد لإلغاء الدعم.
وقالت وزارة التموين المصرية إنها تستهدف هذا العام الحصول على 4 ملايين طن من القمح المحلي مع بدء توريده الشهر الجاري وحتى نهاية أغسطس المقبل، ما يشكل نصف الكمية لتوفير الخبز المدعم الذي يستهلك سنويا ما يقرب من عشر ملايين طن.
توقع خبراء ألا تتجاوز قيمة ما تحصل عليه الحكومة هذا العام سوى ثلاثة ملايين طن من المزارعين، ما دفعها إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات لإنقاذ الموقف، في مقدمتها زيادة سعر الأردب، أي ما يوازي 150 كيلوغراما، إلى 1500 جنيه (48 دولارا) بزيادة قدرها 90 في المئة عن العام الماضي.
خصصت مصر 45 مليار جنيه (1.5 مليار دولار) لشراء القمح المحلي من المزارعين هذا العام، بزيادة قدرها 20 مليار جنيه (650 مليون دولار) عن العام الماضي، وسداد مستحقات المزارعين من الجهات المسوّقة للقمح المحلي بحد أقصى يوم واحد بعد توريده.
تصطدم الحكومة المصرية بمجموعة من المشكلات كلما اقتربت من ملف تحريك أسعار الخبز المدعم، والذي لم يقترب منه بشكل كبير ومفاجئ منذ عام 1977 عندما اندلع ما سمي بثورة الخبز في حينه، والتي أجبرت الرئيس الراحل أنور السادات على التراجع عن رفع أسعاره.
ترى بعض الدوائر السياسية أن زيادة أسعاره في هذا التوقيت تبدو بعيدة عن إجراءات الحماية الاجتماعية التي تتوسع فيها الحكومة لتقليل حدة صدمات تراجع قيمة الجنيه والارتفاع غير المسبوق في معدلات التضخم، وأن الفئات التي تحصل على “العيش” مدعما يصعب الاقتراب منها في وقت ينتظر فيه مصريون قرارات اقتصادية قاسية.
وتعاني مصر من نقص كبير في العملات الأجنبية بسبب ارتفاع تكلفة السلع المستوردة، بينما توفر الحكومة الخبز المدعوم لأكثر من 70 مليون نسمة. وأظهرت تصورات حكومة مصطفى مدبولي أنها غير مستعدة بالشكل الكافي لتقليل فاتورة استيراد القمح، لأن إجراءاتها تأتي كردة فعل على ما يحدث من تطورات.
يعد المزارعون والقطاع الخاص الأكثر استفادة من القمح المحلي، وتتعرض الحكومة لضغوط كبيرة على العملة المحلية بفاتورة استيراد تصل إلى خمسة مليارات دولار سنويا، وتأتي مصر على رأس الدول المستوردة للقمح في العالم.
يشكل تعثر الحكومة في توريد كميات أكبر من القمح المحلي مقارنة بما حققته العام الماضي، أحد أبرز عوامل ضعف منظومتها الاقتصادية والتموينية في التعامل مع الأزمات المعيشية التي تواجه القطاع الأكبر من المواطنين، ما يضعها مجددا أمام انتقادات حادة، وتراجع في قدرتها على مجابهة مشكلات تحقيق الأمن الغذائي.
تشير أرقام حكومية إلى أن وزارة التموين وردت العام الماضي ما يقرب من 4 ملايين طن، مع وعود متكررة بالوصول إلى اكتفاء ذاتي وسد حاجاتها السنوية من هذا المحصول بحو 65 في المئة بحلول العام 2026 مقارنة بـ45 في المئة العام الماضي.
أكد مستشار وزير التموين المصري الأسبق نادر نورالدين أن أرقام الحكومة بشأن مساحات القمح المزروعة جاءت متضاربة، وأن الواقع يشير إلى أن المساحة هذا العام في حدود ثلاثة ملايين فدان، وهي أقل بنصف مليون فدان عما تمت زراعته العام الماضي، ويعد ذلك أول العوامل التي تشير إلى تراجع حصة الحكومة من القمح.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن الزيادة التي أقرتها الحكومة لشراء الأردب لا تكفي لجذب الفلاح لتوريد حصته من القمح إليها، لأن الجزء الأكبر من التجار قام بشراء كميات من القمح قبل موسم حصاده وبسعر يفوق ما حددته الحكومة، ويرجع ذلك إلى أن القطاع الخاص يجد صعوبة في توفير العملة الصعبة التي تساعده على الاستيراد ويرى أن الاستعانة بالمحصول المحلي أكثر فائدة وإن كان بأسعار مرتفعة.
ولفت إلى أن الحكومة وقعت في خطأ آخر حينما ألغت التوريد الإجباري هذا العام في الوقت الذي يتزايد فيه الإقبال على شراء القمح المحلي من القطاع الخاص، وبالتالي فإن المزارعين يتجهون نحو بيعه للقطاع الخاص بكميات أكبر. وقد تجد الحكومة نفسها غير قادرة على استلام سوى مليوني إلى ثلاثة ملايين طن فقط هذا العام، ما يشكل أزمة كبيرة وستنتج عنها زيادة فاتورة الاستيراد التي ستتحمل الموازنة العامة للدولة القدر الأكبر منها.
تجد جهات حكومية نفسها أمام زيادة مطردة في أسعار السلع الإستراتيجية ذات الارتباط المباشر بالقمح نتيجة زيادة أسعاره المحلية وارتفاع فاتورة استيراده من الخارج، لأن أصحاب الشركات المصنعة للدقيق الذي يدخل في استخدامات عديدة وتعتمد عليه مخابز “الخبز السياحي” و”العيش الفينو” (هما نوعان متميزان من الخبز) قاموا بشرائه بأسعار مرتفعة هذا العام، وصلت بعض تقديرات إلى ألفي جنيه (65 دولارا) للأردب الواحد.
وأضاف نورالدين لـ”العرب” أن اتخاذ قرار زيادة أسعار الخبز المدعم الذي مازال سعره زهيدا جدا يبقى بيد الرئيس عبدالفتاح السيسي وحده، وأن الواقع يشير إلى أن الحكومة ضخت 50 في المئة إضافية في موازنتها الجديدة لدعم السلع التموينية، وبالتالي فقرار زيادة سعره قد لا يكون خلال الأشهر المقبلة.
من المتوقع أن تمضي الحكومة في اتخاذ إجراءات جديدة تخفف بها الضغط على الخبز المدعم ودفع قطاعات أكبر من المواطنين نحو شراء الخبز السياحي، لكن وصول سعره إلى 4 جنيهات (نحو 11 سنتا) في بعض المناطق يجعل هناك صعوبة في أن يظل سعر الرغيف المدعم كما هو دون تغيير، وقد تنتج عن ذلك زيادة معدلات تهريب الدقيق وتفاقم مشكلات طوابير الخبز من جديد.
أشار نقيب الفلاحين حسين أبوصدام إلى أن فاتورة استيراد القمح ستظل كبيرة حتى مع مساعي الحكومة لجذب الفلاحين نحو زراعة كميات أكبر وتقديم تسهيلات تضمن تحقيق مكاسب كبيرة من ورائه، لأن الاحتياج المحلي يفوق كثيرا القدرة على زراعته بكميات كبيرة، وقد يخصم ذلك من زراعة الحبوب الأخرى التي تعاني مشكلات في مسألة توفيرها وترتبت عليها زيادة أسعار الأعلاف، ومن ثم اللحوم والدواجن.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن مصر ستتجه نحو تقنين مسألة دعم الخبز عاجلا أم آجلا، والخطورة أن الكميات الموزعة على مخازن التموين لتصنيع الدقيق المستخدم في الخبز المدعم ربما تتراجع أيضا، والتعويل على اتخاذ المزيد من إجراءات التوعية بالتقليل من استخدام الخبز في الوجبات الرئيسية واستبداله بمكونات أخرى.
واستشعرت وزارة التموين خطر عدم قدرتها على توريد كميات مستهدفة من القمح المحلي ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات أخيرة لتضييق الخناق على استفادة القطاع الخاص من المحاصيل المحلية، وحظرت نقل القمح من مكان إلى آخر إلا بعد الحصول على تصريح من مديريات التموين في المحافظات، وطالبت مطاحن القطاع الخاص المنتجة للدقيق بوجوب تدبير احتياجاتها من القمح المستورد وعدم استخدام القمح المحلي إلا بتصريح من الوزارة.
العرب