تزامن الفوز الساحق لليمين الفرنسي المتطرف في انتخابات الدور الأول للأقاليم الفرنسية مع تصريحات عنصرية خطيرة وغير مسبوقة للمرشح المحتمل للحزب الجمهوري إلى الرئاسيات الأميركية الملياردير دونالد ترامب، بما يبعث على الخوف والقلق وينذر بتصاعد الكراهية وأعمال العنف ضد المسلمين في أكبر بلدين يفاخران بكونهما مبعث الأنوار والحرية في العالم الحديث.
الإعصار الأزرق
يشكل الفوز الساحق لمرشحي الجبهة القومية الفرنسية المتطرفة والمتلحفة بعباءة اللون الأزرق السماوي كرمز للسيادة القومية، تحولا تاريخيا في توازنات اللعبة الديمقراطية الفرنسية.
ولم تعد الساحة السياسية والانتخابية خاضعة لمعادلة الاستقطاب الثنائي بين يمين ويسار، بل أصبحت محكومة باستقطاب ثلاثي الأضلع، مع ميل جارف إلى الاتجاه أو السقوط نحو أقصى اليمين.
بستة ملايين ناخب من مجموع 22 مليونا، أصبحت الجبهة القومية القوة السياسية الأولى في فرنسا.
ورغم أن نسبة العزوف كانت مرتفعة جدا حيث تجاوزت نسبة الناخبين، أي أكثر من 50%، فإن معطيات سبر الآراء ورصد اتجاهات الرأي العام الصادرة عن معهد “إيفوب” أعرق معهد فرنسي متخصص في الموضوع، تكشف حقيقة مخيفة مفادها أن نوايا التصويت لدى الممتنعين لا تختلف كثيرا عما أفصحت عنه إرادة الناخبين.
وحول أسباب هذا الصعود فإننا نحيل إلى خطب القيادات البارزة للجبهة القومية وعلى رأسها مارين لوبان وقريبتها الشابة ماريون ماريشال والسكرتير العام للحزب نيكولا باي، وهي خطب تعبوية ترتكز أساسا على دغدغة مشاعر الأغلبية الخائفة والقلقة من تدهور الأوضاع.
تتوجه كل قيادات الجبهة إلى الفرنسيين بمواقف حادة وبيانات تحريضية تتخللها عبارات غير مألوفة، ولكنها واضحة الفرز وبعيدة عن التعويم والغموض والمجاملة التي عادة ما تفرضها مقتضيات الدبلوماسية وإكراهات السياسة.
ومن أمثلة ذلك، البيانات التي تميز بين شعب النخبة الحاكمة والشعب الحقيقي، حيث تتهجم على اللوبيات المالية والنقابية المتنفذة والمساندة للحزبين المنافسين، فتطلق عليهما بأسلوب ساخر تسمية موحدة “اتحاد اليمين الاشتراكي”، وتعتبرها عاجزة اليوم أمام هول التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية عن مواصلة خداع الفرنسيين وتخديرهم بمجرد عملية تداول وهمي على الحكم بين يسار يميني ويمين يساري.
وهكذا تتغذى الجبهة الشعبية القومية بتكرار وتجذير مفاهيم القطيعة السياسية والأخلاقية وتتوسع بتهرئة النخب اليسرا-يمينية الحاكمة، وترسيخ تهمة تحايلها وعدم كفاءتها وافتقادها لأي مصداقية لدى منظوريها تحديدا، كما في أوساط الرأي العام الذي أصبح يميل إلى نبذها واعتبارها في أحسن الأحوال مجرد نخب وظيفية مهمتها الحقيقية رعاية مصالح لوبيات المال التي تدعمها سياسيا وانتخابيا.
تقوم أيدولوجيا الجبهة القومية على براديغمات السيادة والقومية والهوية والانتماء الديني والتاريخ ورفض الاندماج الأوروبي والعملة الموحدة والعولمة المتوحشة والليبرالية الزائفة، وتعتبر الأجانب -خصوصا منهم العرب والمسلمين- الأسباب الرئيسية لتفاقم ظواهر البطالة والإرهاب والتفكك الهووي للمجتمع الفرنسي.
يبدو أن الشيطنة المكثفة للجبهة الوطنية طيلة ثلاثين عاما زادت في شعبيتها ومصداقيتها، مقابل نخب حاكمة مهترئة وعاجزة عن ابتكار حلول جديدة وحقيقية، بل حتى عن تجديد خطابها والتخلي عن أيدولوجيا الخوف والتخويف من تصاعد الظاهرة الإسلامية ومظاهر الالتزام الديني التي ترتبط بها عضويا في اللباس والطقوس.
وتحاول الأطراف المنافسة للجبهة الوطنية عبثا مغازلة أصوات هذه الأخيرة أو استقطاب شريحة من العازفين في الدور الثاني، مثلما يفعله الآن ساركوزي بتعليقه الشهير الذي أعقب نتائج الانتخابات الأخيرة من كون “التصويت لفائدتها لا يُعدّ عملا غير أخلاقي”.
مثل هذا التصريح وغيره من محاولات ترويض الأصوات الثائرة لجبهة الغضب أقرب إلى الانتهازية والاستجداء الممجوج للأصوات منه إلى المبدئية والمروءة السياسية، إذ لن ينسى الناخب الفرنسي الحملات الإعلامية المسعورة ضدها والتي بلغت حد دعوة رئيس الوزراء عن الحزب الاشتراكي إيمانويل فالس أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة إلى منعها من الوصول إلى الحكم “بكل الوسائل”، الأمر الذي أدانته الجبهة القومية واعتبرته منافيا لمبادئ الديمقراطية والحكم الجمهوري.
وتذكّر حملات شيطنة الجبهة الوطنية في الإعلام الفرنسي بحملات الشيطنة التي تقودها أنظمة الحكم العربية ضد معارضيها وخصومها السياسيين، فكلما ازدادت الأولى ضراوة ازدادت الثانية شعبية.. إنه وضع الضحية الذي يجلب التعاطف والتضامن والتأييد، خاصة إذا كان حاميها حراميها!
الملحوظ الجديد والخطير أن الجبهة الوطنية تقدمت بقوة في المناطق التي تديرها منذ العام 2014 إثر فوزها في الانتخابات البلدية، بل يذهب أغلب المراقبين إلى أن التصويت لفائدتها بصدد التحول من مجرد تصويت عقابي ضد نخبة الحكم، إلى تصويت راسخ واعٍ ومقتنع بأنها البديل الوحيد القادر على القطع مع الرداءة ومنع الانهيار.
العنصرية السياسية
لم يقتصر صعود الخطاب المتطرف على فرنسا وحدها، فمن الغريب أنه بالتزامن مع صعود اليمين الفرنسي المتطرف، كان خطاب آخر شديد التطرف يخطف الأضواء في أميركا.
فمع اشتداد حمى الرئاسيات الأميركية القادمة، بدأت تصريحات المرشح الجمهوري المحتمل للرئاسيات الأميريكة دونالد ترامب المتطرفة في التصاعد مبكرا وبشكل حاد سيخلف لا محالة مضاعفاته الخطيرة على نسيج المجتمع الأميركي إن لم تتدخل الدولة فورا وبقوة القانون لمنع الانحراف وردع التطرف.
لقد أثارت تصريحات ترامب العنصرية المحرضة ضد المسلمين والداعية إلى منعهم من ولوج العالم الجديد، حفيظة البيت الأبيض نفسه الذي سارع إلى إدانتها واعتبارها متماهية مع الإستراتيجية الداعشية.
بل إن بعض رفاق حزبه تبرؤوا منه، وعلى رأسهم السيناتور ليندسي غراهام الذي قال إنه لا يمثلهم. ولكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: ما الذي ينتظره الحزب الجمهوري لإعلان منعه من خوض السباق الرئاسي، بل وطرده نهائيا من الحزب؟
إن تأجيل قرار كهذا لن يفسر لدى مسلمي أميركا والعالم إلا بالتواطؤ الحكومي ضدهم والاحتقار لمشاعرهم وكرامتهم والرغبة في تأجيج نيران الحرب الصليبية المقدسة ضدهم على الطريقة البوشية.
الحصاد المرّ
مثل نظيرته اليمينية الفرنسية مارين لوبان، يعتمد الأميركي دونالد ترامب على خطاب شعبوي ساخر ومستفز ومتمرد على ما يسمى في قاموس السياسة الفرنسية “الصائب سياسيا”، وذلك لأغراض التعبئة وجلب الانتباه والتعاطف.
وحسب آخر استطلاعات الرأي الأميركية لمؤسسة “بي.بي.بي” فإن 30% من شريحة الناخبين الجمهوريين يؤيدون مطلب عدم الاعتراف بالإسلام، و21% منهم تستهويهم فكرة الرفض هذه.
وتطرح في أميركا أيضا وبحدة أزمة النخب، ويذهب ديفد جورجن -وهو أحد مستشاري الرئيس السابق ريغن- إلى القول بأن تواصل رداءتها وغرورها سيؤدي إلى وصول المتطرفين إلى الحكم كبديل.
لقد بلغ الاحتقان درجات خطيرة تهدد مستقبل الأجيال القادمة والإنسانية برمتها، وذلك بانتقال حالة التوجس والخوف من الآخر وعدوى الكراهية إلى الشباب وأطفال المدارس، حيث أوردت جريدة لوموند الفرنسية في عددها الصادر يوم 9 ديسمبر/كانون الأول الجاري مقالا مفزعا بعنوان “دروس علوم الأحياء والتاريخ مرفوضة من بعض التلاميذ”، وذلك بسبب الضغط الديني والعائلي حسب كاتب المقال الذي يذكر أن أحد الأساتذة بلغ به الأمر حد وضع مصحف القرآن فوق مكتبه للاستنجاد به في حال الاحتجاج أو الاستنكار على مسألة ما!
حسب تقرير “المجموعة الفرنسية لمناهضة الإسلاموفوبيا” لعام 2014 فإن الأعمال العنصرية ذات الطبيعة الإسلاموفوبية بلغت 764 اعتداء، أي بنسبة زيادة فاقت 10%، غالبيتها موجه ضد النساء (نحو 80%).
وتشكل المدارس المكان الأكثر عرضة للاعتداءات العنصرية والإسلاموفوبية، خصوصا بعد أحداث يناير/كانون الثاني 2015 التي استهدفت مقر مجلة “شارلي إيبدو”.
إثر هذه الواقعة الإرهابية تم تسجيل 120 عملا معاديا للمسلمين، منها ثلاثون اعتداء ضد دور العبادة في ظرف زمني لم يتجاوز ثلاثة أسابيع، وهي أحلك وأقصر فترة زمنية يحدث فيها هذا الكم من الاعتداءات العنصرية.
ورغم بعض التصريحات الرسمية المجاملة للعرب والمسلمين والداعية إلى التعددية والتعايش والسلم الاجتماعي والمبرئة للديانة الإسلامية من العنف والتطرف والدوعشة، فإن الممارسة اليومية في المؤسسات الرسمية والخاصة والقوانين والإجراءات الإدارية والأحكام القضائية تتجه -على الصعيدين الفرنسي والأوروبي- نحو تقليص هامش الحرية الدينية، والتدخل لتحجيمها وتقييدها بذريعة حماية العلمانية كأساس للنظام الجمهوري.
هذا الاتجاه بدأته فرنسا بمنع حجاب الفتيات في المدارس، ثم سحبته على كل موظفي المؤسسات والمرافق العمومية، لكي تُقره وترسخه أخيرا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بعد 15 عاما من التقاضي، في قرار لها صدر يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي والذي يستند إلى ضرورة الالتزام بمبدأ علمانية الدولة واحترام الدستور الفرنسي.
لقد أظهرت الانتخابات الفرنسية الأخيرة -كما اتجاهات الرأي الأميركي في أوساط الملايين من أنصار الحزب الجمهوري الكبير وبما لا يدع مجالا للشك- أن المستفيد الأكبر من التطرف الداعشي المتمثل في العمليات الإرهابية الأخيرة في فرنسا وأميركا، هو التطرف اليميني الذي يستطيع استثمار حالة الخوف ومخزون الرعب وتحويلهما إلى طاقة انتخابية يجيّرها لصالحه.
تستثمر النخب اليمينية المتطرفة إذن في مناخات الخوف والإحباط فلا تتردد عن التخويف والتثبيط وتغذية الأحقاد فيما يشبه عقدة عشق الحريق، لكي تشبع ساديتها بمشاهدة ألسنة النيران الملتهبة في كل عواصم الثلج شمال المتوسط بعد أن غطت جميع “مدن الملح” في جنوبه.
لقد أضحت هذه النخب نفسها -بوعيها المأزوم وتعصبها الأيدولوجي- شريكة في صناعة الإرهاب، بل أخطر مروج له في العالم، متنكرة بذلك وخائنة للأسس الفلسفية والمبادئ الإنسانية للثورتين الأميركية والفرنسية.
سليم بن حميدان