“إدارة التوحش” هو أحد أهم إصدارات تنظيم “القاعدة” للاقتراب من حكم المناطق التي يسيطر عليها التنظيم مع سقوط يد الدول التي تحكمها عليها، وهنا يتطلب الأمر توحشاً ووحشية من التنظيم لكي يستطيع السيطرة على مناطق هي بطبيعتها مضطربة وقلقة وقابلة للثوران والتفجر.
وفكرة “إدارة التوحش” كانت محاولة للسيطرة والإدارة لحالة توحش حتى يمكن الإمساك بمقاليد الأمور، بيد أن “ما بعد إدارة التوحش” هو الحالة التي يعبر عنها تنظيم “داعش” اليوم، حيث يبالغ التنظيم في استخدامه للوحشية والتوحش والعنف وتقديمه باعتباره عملاً مقدساً محاطاً بسحر وغموض، ومن ثم بتقبل واستعذاب.
صناعة العنف الأسطوري المقدس
الأساطير هي التي تصنع العنف المقدس لما أطلقنا عليه هنا “ما بعد إدارة التوحش”، أي فقدان السيطرة والمضي قدماً في توحش لا يوقفه حد ولا يضبطه ضابط، حتى إن “القاعدة” التي أسست لإدارة التوحش هالها ما يقدم عليه تنظيم “داعش”، واعتبرته خارجاً عن حدود الممكن والمعقول والمتحمل والإنساني، وبالطبع الديني، فأعلنت براءتها منه، وكان ذلك أحد أسباب الجدال بين التنظيمين.
المشاهد التي يبثها التنظيم لضحاياه وكأنهم يقدمون كأضاحي إلى مذابح مقدسة، يسيرون وهم خاضعون، وإلي جوارهم أفراد من التنظيم يمتشقون أدوات قتل بدائية في مشية تبدو وكأنها ذات طابع جنائزي يقول “نحن نقدم تلك القرابين اليوم لنكون نحن قرابين الغد للموت ولا شيء غيره”…. إنه العنف الأسطوري المقدس.
هذا العنف المقدس تعبر عنه المشاهد ذات الطابع الوحشي لضحايا يقتلون بالسكين أمام أنظار العالم كما حدث مع الصحفيين الأمريكيين “جيمس فولي” و”ستيفن سوتولوف”، ومع الطيار الأردني “معاذ الكساسبة”، ومع المواطنين المصريين الأقباط، وغيرها من مشاهد أخرى متوحشة تتحدى الحضارة الإنسانية الراهنة كتلك التي تعلن عن صينيين مأسورين لدى “داعش” للبيع باعتبارهم غنائم حازوا عليها بقوة الفتح والبطش والتمدد.
وفي الأحداث الأخيرة في هجمات باريس التي وقت الشهر الماضي، يبحث التنظيم عن منصات ومسارح كبرى يستطيع من خلالها تقديم حالة وحشية جداً لمشاهد تعود لمسارح الوحشية الرومانية حين كانت تفتح أقفاص الوحوش الجائعة نحو بشر يقاتلونها للاستمتاع، بيد أن “داعش” تريد أن تقدم نسخة عنفها المقدس لا للاستمتاع، وإنما للتبشير بمشاهد وحشية على مسارح كبرى وضخمة تقول للعالم إن ما بعد تلك الوحشية ليس سوى قيام القيامة ومجيء أحاديث آخر الزمان والفتن والملاحم.
استحضار ملاحم وأساطير نهاية العالم
من هنا يضع “داعش” ضمن استراتيجيته استحضار أحاديث آخر الزمان، والتي تجعل من منطقة دابق التي تقع علي الحدود السورية ـ التركية، والتي يسيطر عليها التنظيم في حلب بشمال سوريا؛ حيث يقول أعضاء التنظيم “موعدنا دابق”، كما أن “دابق” هي الاسم الذي اختاروه لمجلتهم التي تصدر باللغة الإنجليزية، والتي تشير إلى تمكن في الإخراج والتصميم والتوظيف.
يعتبر التنظيم نفسه تجلياً لقدر الله المكتوب نحو نهاية للعالم تتم من خلال أعمال عنف مقدس – في منظوره – ذات طابع وحشي لتقرب خاتمة الحياة الدنيا ونهايتها بمنظور قيامي يغلب النهايات الملحمية على أي منظور يمنح الإنسان أملاً في استمرار الحياة نحو صيغة أكثر عدلاً وإنسانيةً وإشراقاً.
الملاحم والأساطير ونهاية العالم في منطقة الشام وعلى الحدود السورية ـ التركية بمنطقة دابق والأعماق، وتلك مدينة أخرى أيضاً بالإضافة لدابق مذكورة في أحاديث للفتن والملاحم في صحيح مسلم.
في الحديث “لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق”، وقبل نزولهم بالأعماق يكون صلحاً بينهم وبين المسلمين فيقتلون عدواً من ورائهم، حتى يقول واحد من الروم غلب الصليب، أي أن الغلبة على العدو في القتال المشترك بين المسلمين والروم كان بسبب قوة جند الروم، فيرفض المسلمون ذلك وتقوم الحرب بين الفريقين، ثم تكون الملحمة في مدينة يُقَال لها دمشق فيها خير منازل المسلمين يومئذ.
وفي المواجهة الكبرى تلك بين الروم والمسلمين قبل نهاية العالم ونزول المسيخ الدجال ونزول عيسى بن مريم وقتله له، يأتي الروم تحت ثمانين غاية – أي راية كل راية تحتها اثني عشر ألفاً -، وهم على مواقع “داعش” يعتبرون اجتماع مجموعة العشرين في أنطاليا وقدوم القوات الخاصة الأمريكية لمساندة الأمريكيين بل ومجيء الروس إلى سوريا.. كل ذلك دليلا لا يُخِيف “داعش”، وإنما يؤكد ما يطلقه في أساطيره بأن المعركة تكتمل نحو المواجهة الكبري التي يرى نفسه فيها قدر الله للقضاء على ما يعتبره حضارة عنواناً للتمرد على الله.
إن استحضار أحاديث آخر الزمان من قبل “داعش” يعكس محاولته طبع المقدس على العنف الذي هو في النهاية تأويلاتها التي تحل في عنفها الذي يبدو عنفاً ذاتياً كامناً في نفس وعقل من يديرونه بعيداً تماماً عن أي دين أو أخلاق أو منطق أو حضور إنساني.
لا يستحضر “داعش” فقط عنفه ضد أعدائه وضحاياه، ولكنه يمجد العنف الذي يوجه لأعضائه أنفسهم باعتبار ذلك تجسيداً للتعبير عن مهمة مقدسة أو مجيدة يقوم بها أعضاؤه، وجماعات العنف المقدس كداعش في الحقيقة تحاول استدعاء الأساطير لتبرير عنفها الكامن في عقول ونفسية ومشاعر المتخذين العنف أيديولوجية، ولكن لأن العنف لا يمكن تبريره إلا من خلال أسطورة دينية تمنحه معنى مقدساً؛ فإن “داعش” يذهب لتك الأحاديث والرموز لتكون ملقاطاً أو جاذباً لهم من ناحية، ولكي يعطي معنى لما يقوم به، والذي يعد خارج المنطق الديني والإنساني معاً من ناحية أخرى.
دكتور كمال حبيب
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة