يمكن للمولعين بنظرية المؤامرة، أو بالحبكات البوليسية للأحداث السياسية، أن يجدوا في تزامن حدثي انعقاد القمة الروسية ـ الأفريقية في مدينة سان بطرسبورغ، والانقلاب العسكري في النيجر، مناسبة للربط والتعليق، فالواقعتان تصبّان في صالح السياسات الخارجية الروسية، إضافة إلى إمكانية ربطهما بشبكة معقدة من الوقائع الأخرى، والصراعات العالمية، والداخلية، التي تقع موسكو، ورئيسها فلاديمير بوتين، في قلبها.
أضيف لهذين الحدثين عنصر آخر مثير، وهو ظهور يفغيني بريغوجين، زعيم «شركة» فاغنر العابرة للحدود، وشديدة النفوذ في القارة الأفريقية، في كواليس تلك القمة حيث التقطت له صورة وهو يصافح السفير فريدي مابوكا، أحد كبار المسؤولين في جمهورية أفريقيا الوسطى، في تأكيد واضح يعتبر الأول على وجود بريغوجين في روسيا بعد تمرده الفاشل، كما نشرت مجموعة تعتبر واجهة فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى تعليقا صوتيا منسوبا له يؤيد فيه انقلاب النيجر ويعتبره «كفاحا ضد المستعمرين».
رغم إعلان الولايات المتحدة الأمريكية أنها لم تكتشف علاقات بين فاغنر والانقلاب في النيجر، فإن ردود الفعل الغربية تظهر أن مآله سيصب في صالح روسيا، ولهذا فقد أعلنت فرنسا أنها لن تعترف بنتائج الانقلاب، ورأى فيه رئيسها، إيمانويل ماكرون، «خطرا على المنطقة».
أدت القمة وانقلاب النيجر، إلى انقلاب حدثين خطيرين، وهما تمرد فاغنر وإلغاء اتفاق الحبوب الأوكرانية، إلى واقعتين مفيدتين لموسكو، ويبدو أن الأمرين مرتبطان، فحسب مقال تحليلي في مجلة «نيوزويك» الأمريكية، فإن قرار العفو عن تمرّد بريغوجين صدر من بوتين شخصيا، وأن سببه كان نفوذ فاغنر الكبير في أفريقيا، ولا يتعلّق الأمر بعملياتها العسكرية في أفريقيا الوسطى ومالي وليبيا، بل بتأثيرها السياسيّ على النخب السياسية الأفريقية وخطابها الذي عبّر عنه بريغوجين بالحديث عن «الكفاح ضد الاستعمار الغربي» وهو ما تردد صداه أيضا في خطاب بوتين الافتتاحي للقمة الذي قال فيه «دعمنا أفريقيا لعقود في مواجهة نير الاستعمار».
بعض التحليلات الغربية اعتبرت حضور 17 زعيم دولة أفريقية للقمة، مقارنة بـ43 زعيما حضروا نسخة تلك القمة لعام 2019، تعبيرا عن تراجع النفوذ الروسي، وربطت ذلك بقرار موسكو إلغاء اتفاق الحبوب، وهو ما يمكن أن يفسر انصباب جهد بوتين على إقناع الأمم الأفريقية، وليس الزعماء الحاضرين فحسب، أن روسيا قادرة على تعويض ما سيتم خسارته من الحبوب الأوكرانية، وقد وعد، خلال خطاب له في القمة بتزويد بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وأريتريا بشحنات مجانية من القمح للأشهر الثلاثة المقبلة، وفوق ذلك، فقد أعلن، أمس الجمعة، أن بلاده ستخصص نحو 90 مليون دولار إضافية للدول الأفريقية لتخفيف الديون.
لجأ بوتين، في سبيل ذلك، لكتابة مقالة باسمه نشرها الكرملين أكد فيها بأن بلده قادر على استبدال الحبوب الأوكرانية «سواء على أساس تجاري أو مجاني» وبرز تركيز روسيّ على مصر، التي حصلت على «كمية ضخمة من القمح» على حد تعبير وسائل الإعلام الروسية، كما تم تكثيف الشحنات إلى الجزائر، التي عززت العلاقات معها على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية.
رغم الحملة الدبلوماسية الكبيرة المرافقة للقمة، فإن مشاركة أغلب القادة الأفارقة الحاضرين (باستثناء الحلفاء المباشرين، والذين يعتمدون على الوجود العسكري الروسي كما هو حال أفريقيا الوسطى ومالي) ترتبط، إلى حد كبير، بتنفيذ موسكو لوعودها، من دون أن نتجاهل أن الانقلابات العسكرية، التي كان آخرها ما حصل في النيجر، تلقى إدانات واستنكارات من كثير من النظم الأفريقية، حتى لو استخدمت تحت شعار «مكافحة الاستعمار».
القدس العربي