أكتب وأحذر منذ عقدين في كتبي ومحاضراتي ومقالاتي عن جيرة إيران الصعبة. وكتبت مقالاً «العرب وإيران والجيرة الصعبة» منبهاً وشارحاً مشروع إيران وأهدافه وتحذيرات الرئيس المصري الراحل حسني مبارك من مخططاتها دون أن يسميها، وسعيها لبسط نفوذها وأجندتها ومخططها وأجندتها على عالمنا العربي، والمتاجرة بالقضية الفلسطينية. واحتضان الإرهاب والتطرف والمجاهرة بعدائها للسلام.
حذرت في مقالي الأسبوعي في «القدس العربي» قبل شهر: «دول مجلس التعاون… متلازمة جيرة إيران الصعبة» منبهاً بعد ثلاثة أشهر من إنجاح السعودية وإيران وساطة الصين لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد 7 أعوام من القطيعة والحرب والباردة والمواجهات بحروب الوكالة، محذراً من المبالغة بالتفاؤل بنتائج تطبيع العلاقة الخليجية مع إيران. وأن علينا ألا نغرق بالتفاؤل، بسبب تناقضات إيران ومشروعها ومخططها ونهجها التوسعي.
أعيد التأكيد، «لم أشارك المتفائلين برغم تسارع خطى التطبيع وزيارات كبار المسؤولين بالانفتاح والتقارب السعودي ـ الخليجي مع إيران وإعادة فتح البعثات الدبلوماسية، وزيارة وزير الخارجية الإيراني للسعودية والإمارات والكويت، وإعادة الأسد حليف إيران للحضن العربي في القمة العربية في السعودية الأخيرة. الواقع لن تتنازل إيران الثورة بعد 44 عاماً عن مشروعها، ولن تغير سلوكها ولن تغلب العقلانية على الإيديولوجية. ولم تنتقل لإيران الدولة لتتصرف بمسؤولية وتبني الثقة وتوقف تدخلاتها وتقويض الأمن الإقليمي. لذلك وصفت المرحلة الحالية «اختبار نوايا إيران»
ورغم أجواء التهدئة والمصالحات الإقليمية، لكن تأبى إيران إلا أن تظهر وجهها الحقيقي بالتصعيد وعودة التوتر والتصعيد للمنطقة. ونشهد اليوم ما حذرت منه وثبت صحة توقعاتي أنه يصعب على إيران تغيير جلدها.
برز ذلك بعدة مواقف من ممارسة القرصنة بمحاولات احتجاز ناقلات نفط في خليج عمان ومضيق هرمز والمواجهات مع الأسطول الأمريكي، وتصعيد إدارة بايدن بإرسال بشكل مفاجئ مقاتلات F-16 و-F-35 ومدمرات للخليج. وحتى التفكير بوضع عناصر عسكرية على متن سفن تجارية وناقلات النفط، لردع إيران عن ممارساتها ولطمأنة الشركاء الخليجيين، ولاحتواء التقارب الخليجي ـ الصيني.
وفي رسالة رفض لزيادة الوجود العسكري الأمريكي في الخليج في مسرح عمليات القيادة الأمريكية الوسطى، رد الحرس الثوري بإجراء مناورات عسكرية مفاجئة، في سواحل الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران منذ عام 1971، ما يزيد من التوتر في المنطقة!
لكن ما يشكل تحديا واستفزازا حقيقيا ويمتحن اختبار النوايا وتسارع التطبيع، هو موقف إيران المستفز من حقل الدرة بالادعاء ملكيتها 40 في المئة من الحقل، والتعدي على سيادة وحقوق الكويت والسعودية، ورفض العودة للتفاوض لترسيم الحدود البحرية.
على إيران وقف مواقفها المتناقضة بين التصعيد والتهدئة والتطبيع والعودة للتصعيد، حول حقل الدرة ومناورات إيران في جزر الإمارات المحتلة والتصعيد بالاعتداء على السفن وناقلات النفط ومصادرتها ما يهدد حرية وسلامة الملاحة في الخليج العربي
يشكل الخلاف والتصعيد الإيراني تجاه كل من الكويت والسعودية حول تباين المواقف الصفرية في ملكية حصرية (تطلق عليه الكويت والسعودية) «حقل الدرة» الغني بالغاز الطبيعي، والذي يقع ضمن المياه الإقليمية الكويتية ـ السعودية. بينما تطلق عليه إيران حقل آراش.
أكتشف الحقل في مياه الخليج عام 1967 وبقي موضع خلاف بين الكويت وإيران على مدى العقود الماضية. وأجرت إيران والكويت، طوال سنوات محادثات حول حدودهما البحرية الغنية بالغاز، لكنها باءت جميها بالفشل. لرفض إيران الغنية بالغاز الطبيعي ترسيم الحدود البحرية في الجرف القاري والاحتكام للقانون الدولي وقانون أعالي البحار. ما يحرم الكويت من استغلال ثروتها الطبيعية بتطوير الحقل واستخراج الغاز الطبيعي، خاصة أن ثروة الطاقة الكويتية تفتقر لكميات وفيرة من الغاز الطبيعي سواء للاستهلاك المحلي وللتصدير. ووقّعت الكويت والسعودية اتفاقاً لتطوير الحقل، على الرغم من اعتراض إيران، ووصفت الاتفاق «بغير شرعي».
رفض سعد البراك وزير النفط الكويتي الجديد نهاية الشهر الماضي ادعاءات وإجراءات إيران حول حقل الدرة ـ لأنه يشكل ثروة طبيعية حصرية كويتية ـ سعودية. وليس لأي طرف آخر حقوق فيه حتى تُرسم الحدود البحرية». وأعلن للمرة الأولى أن الكويت ستبدأ التنقيب والإنتاج في حقل الدرة، دون العودة لإيران أو ترسيم الحُدود معها.
وأكدت وزارة الخارجية السعودية في بيان رسمي تجديد السعودية والكويت دعوتهما السابقة والمتكررة لإيران للتفاوض حول الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة مع السعودية والكويت كطرف تفاوضي واحد، وإيران كطرف آخر، وفقا لأحكام القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار. وأن ملكية حقل الدرة مشتركة بين البلدين فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات في تلك المنطقة». ولم يصدر تعليق فوري من إيران بشأن البيان السعودي ـ الكويتي المشترك. فيما تتجاهل إيران طلب السعودية والكويت العودة لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية.
وفي خطوة تصعيدية، حذر وزير النفط الإيراني لن نتراجع عن موقفنا قيد أنملة ونملك حق التنقيب واستخراج الغاز. ولن تتحمل إيران أي تضييع لحقوقها في حقل آراش. وكرر وزير النفط الإيراني لطالما دعمت إيران الحل الودي لقضايا الحدود البرية والمائية مع الجيران». ودعت إيران وزير الخارجية الكويتي لزيارة طهران للتباحث حول الموضوع.
نشهد اليوم تراجعا لزخم تسارع التطبيع بين السعودية وإيران. وتأخر افتتاح السعودية بعثاتها الدبلوماسية في طهران ومشهد بعد أشهر من زيارات وفود تقنية، وسفارتها في دمشق. وهناك الخلاف العلني حول حقل الدرة.
على إيران وقف مواقفها المتناقضة بين التصعيد والتهدئة والتطبيع والعودة للتصعيد، حول حقل الدرة ومناورات إيران في جزر الإمارات المحتلة والتصعيد بالاعتداء على السفن وناقلات النفط ومصادرتها ما يهدد حرية وسلامة الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز. ويثير قلق الطرف الخليجي برنامج إيران النووي والصاروخي البالستي وتجاوز صواريخها مدى 2000 كلم. كما تقلقنا قدرات المسيرات الإيرانية التي تستخدمها روسيا في حربها على أوكرانيا!
لذلك تتكرر التساؤلات كيف نثق بإيران وسط المراوحة بين التصعيد والتهدئة ومناورات إيران العسكرية والسياسية، وتناقضاتها وسلوكها المستفز؟ وتداعيات ذلك على مستقبل علاقتنا مع إيران، وعلى الملفات الخلافية في المنطقة؟
القدس العربي