كُتب وقِيل الكثير عن التقارب السعودي الإيراني الذي بدأ بداياتٍ خجولة بواسطة عراقية، لم تكن على الأغلب بعيدةً عن علم الأميركان وعدم ممانعتهم. ومع بروز مؤشّرات تبيّن إمكانية التوصل إلى توافقات، انتقلت ساحة المفاوضات إلى عُمان التي يبدو أنها، بحكم موقعها وعلاقاتها مع الطرفين، كانت مهيّأة لتوفير مناخاتٍ تساعد على إخراج المناقشات من دائرة المجاملات الدبلوماسية الشكلية بعض الشيء، ليتم تناول قضايا ملموسة، وأكثر علاقة مع المسائل الخلافية بين الطرفين. وأخيراً كانت الخطوة الصينية التي يسّرت عملية التوافق المبدئي بين قوتين إقليميتين هامتين، تمتلكان المقوّمات والإمكانات في ميدان التأثير في واقع المنطقة ومستقبلها.
وعلى الأرجح، لم يكن اختيار الصين وسيطاً دولياً في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا، والتخندقات الحاصلة بين التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة ودول حلف الناتو إلى جانب اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا من جهة، والاتحاد الروسي وحليفته بيلاروسيا، بالإضافة إلى الحلفاء المتردّدين تحت وطأة الحسابات الاقتصادية والعواقب المحتملة، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الصين وإيران، من جهة أخرى.
وعلى الأكثر، لم يكن البيان الذي أُعلن عنه في بكين عن الاتفاق السعودي الإيراني بعيداً هو الآخر عن علم الولايات المتحدة، ولم يتعارَض على الأرجح كثيراً مع حساباتها، بل ربما كان هذا البيان باباً، أو أنه وفّر إمكانية جديدة للتعامل مع إيران والصين بعقلية أخرى مغايرة، تركّز على إمكانية تحييد موقفي البلدين، أو فرملة اندفاعهما باتجاه دعم الروس بالمعدّات والإمكانات في حربهم على أوكرانيا المستمرّة منذ 19 شهراً. وترجّح المؤشّرات المتوفرة حالياً هذا الاحتمال الذي ربما أدّى مستقبلاً إلى شيءٍ من التهدئة، وفتح الطريق أمام جهود البحث عن الحلول. وعلى الأكثر، كان اللقاء الذي جرى بين ممثلي مجموعة من الدول (شملت البرازيل وجنوب أفريقيا والهند وتركيا والسعودية) على مستوى الأمنيين في الدنمارك بخصوص إحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا، وانتقال الاجتماعات بعد ذلك بدائرة أوسع، وعلى نحو تمثيلي أرفع، وبمشاركة صينية، إلى الرياض لاحقاً، من الخطوات المهمة التي تبذل للوصول إلى حلّ مقنع مقبول من الجانبين الروسي والأوكراني، فالحرب الواسعة النطاق، المجهولة النتائج في حال تصاعدها وارتفاع حدّتها، ليست من مصلحة القوى الدولية الأساسية راهناً أو من أهدافها، فأوروبا التي عاشت ويلات حربين عالميتين لا تريد الحرب التي أعلنها بوتين على أوكرانيا تحت شعاراتٍ كبرى، بعضها مستلهم من ماضٍ إمبراطوري كان ولن يعود، وبعضها الآخر يكشف عن توجّهات معاصرة محورها المطالبة بمكانة أفضل في الموازين والمعادلات العالمية، تليق بمكانة روسيا الأوراسية ورسالتها وفق تصورات بوتين ومستشاريه من المنظّرين. هذا في حين أن التقدّم التكنولوجي والثروات الطبيعية والمالية، وعوامل التحكّم في الاقتصاد العالمي، هي المقومات الأساسية المطلوبة في عصرنا، لتتحوّل دولة ما إلى قوة مؤثرة بين القوى الدولية الكبرى.
تدرك الصين أنها ليست سيدة الموقف في منطقة جنوب شرق آسيا؛ فهناك اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا
والولايات المتحدة نفسها التي تشهد استقطاباً سياسياً حادّاً على المستوى الداخلي، وتنوء تحت ثقل جملة مشكلات اجتماعية، قبل نحو عام من انتخاباتها الرئاسية والتشريعية، لا تريد، هي الأخرى، حرباً مفتوحة تؤثر كثيراً على ميزانية دافع الضريبة الأميركي وتوجّهاته الانتخابية.
والصين التي استفادت من العولمة في الميدانين التكنولوجي والاقتصادي، وحقّقت نجاحات اقتصادية مذهلة، لا تريد أن تخسر ما كسبته. والخسارة الأكبر بالنسبة إليها ستكون حينما تفقد الميزات الاقتصادية الكبرى في التعامل مع الاتحاد الأوروبي، وحتى مع الولايات المتحدة نفسها؛ هذا رغم ارتفاع أصوات صينية متشدّدة في المناسبات المختلفة، تؤكّد استعداد الصين لكل الاحتمالات دفاعاً عن سيادتها، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الجدل بشأن مستقبل تايوان.
من جهة أخرى، تدرك الصين أنها ليست سيدة الموقف في منطقة جنوب شرق آسيا؛ فهناك اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، بالإضافة إلى الدول الأخرى الصاعدة التي حقّقت نجاحات مهمة في الميادين الاقتصادية. فيتنام مثلاً، ليست على استعداد لإطاحة مكاسبها مقابل الانخراط في صراعٍ لا تتوقع منه سوى الخسارة؛ وهي تستند، في هذا المجال، إلى تجاربها الخاصة وتجارب غيرها.
وبالعودة إلى الاتفاق السعودي الإيراني، وانعكاساته على أحوال إقليمنا الذي يعاني منذ عقود من النزاعات والصراعات والحروب، منها على سبيل المثال: الحروب التي كانت بين إسرائيل وعدة دول عربية، والصراع الوجودي المزمن بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي السياق ذاته، تجدُر الإشارة هنا إلى الحرب الطويلة المدمّرة التي كانت بين إيران والعراق في ثمانينيات القرن الماضي. هذا إلى جانب التمدّد والتغلغل الإيرانيين في عدة دول ومناطق عربية (العراق، اليمن، سورية، لبنان، قطاع غزة)، التي اعتبرها المسؤولون الإيرانيون في مناسبات مختلفة ضمن دائرة النفوذ والقرار الإيرانيين.
التوجّه المطلوب هو الذي يركّز على المصالح المشتركة، ويحترم حقائق التاريخ والجغرافيا، ويبني على المشتركات الثقافية، ويحترم السيادة
وقد دفعت شعوب منطقتنا ودولها على مدى عقود ضرائب باهظة في ميادين الاجتماع والعمران والاقتصاد، إلى جانب الملايين من الضحايا والجرحى والمغيبين، واليائسين من المستقبل. وستستمرّ كل هذ الكوارث، بل ستتفاقم وتفرّخ غيرها، ما لم تتوافق القوى الإقليمية الأساسية على أهمية معالجة أسباب الخلاف وضرورتها، وتركّز على نقاط المصلحة المتبادلة. ولن يكون هذا من دون توجّه إقليمي جامع، يتجاوز العقلية المبنية على حسم الخلافات بالقوة والعنف عبر التدخّل المباشر، أو من خلال المليشيات العضوية أو الوظيفية الوافدة والمحلية منها. والتوجّه المطلوب هو الذي يركّز على المصالح المشتركة، ويحترم حقائق التاريخ والجغرافيا، ويبني على المشتركات الثقافية، ويحترم السيادة، إلى جانب تفهّم واقع التداخلات الدينية والمذهبية والقومية. توجّه يحترم الخصوصيات، ويعترف بالحقوق، ويعمل على تحقيق العدالة في سياق التعامل مع تطلعات الشعوب والجماعات والأفراد. وستجعل هذه الخطوات، إذا تحقّقت، من السياسة الحالية المتّبعة، وهي سياسة توجيه الأنظار نحو الانتصارات الخارجية، وقمع المطالبات العادلة بذريعة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة “المقدّسة”، عديمة المعنى والفائدة، بل مضرّة ومكلفة.
وحتى يكون الجهد الإقليمي على صعيد تخفيف التوتّرات، وتمهيد الأرضية أمام عمل إقليمي مشترك، لا بد من توسيع نطاق ما يجري حالياً بين السعودية وإيران، ليشمل القوى الإقليمية الأساسية في المرحلة الأولى على الأقل، خصوصا تلك التي تمتلك الإمكانات والمؤهلات والأوراق والقدرة على التفاهم. ويُشار هنا إلى تركيا على وجه التحديد التي لها حساباتها الجيوسياسية التي لا تتوافق مع الحسابات الإيرانية، رغم المصالح الاقتصادية المشتركة والتوافقات الظاهرة بشأن الملف السوري، فسورية بالنسبة إلى إيران هي ساحة توسّع وامتداد ووصول إلى المتوسط، في حين أنها بالنسبة إلى تركيا البوابة الجنوبية لأمنها الوطني. وما يقلقها أكثر من غيره هو التمدّد الإيراني في الجوار التركي، سواء في سورية أو العراق أو حتى في آسيا الوسطى، فلهذا التمدّد مخاطره المستقبلية على الداخل التركي نفسه. أما خطر حزب العمال الكردستاني كما يعلن ويسوّق في الإعلام التركي، وتصريحات السياسيين الأتراك، في الحكم وفي المعارضة، فهو مجرّد تفصيل في هذا المجال.
أثبت الأسد تباعاً عدم أهليّته لأن يكون رجل دولة في مقدوره جمع شمل السوريين بعد كل ما حصل
وما هو متوقّع، بناء على القرائن الخاصة بتجدّد التوجهات التركية الغربية، والموافقة المبدئية، التي أعلن عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على انضمام السويد إلى “الناتو”، هو أن يكون هناك تفاهم أميركي تركي على ايجاد حلّ أو مخرج لموضوع حزب العمال الكردستاني في منطقة شرق الفرات. وعلى الأغلب، لن يكون ذلك بعيداً عن تفاهمات أشمل مع الإيرانيين بشأن سورية، تشمل طمأنة تركيا وإسرائيل، وزيادة الضغط على الروس، بهدف دفعهم نحو القبول بمخارج واقعية لا ترتقي إلى مستويات أحلام بوتين الإمبراطورية، سواء في أوكرانيا أو في سورية، ولكنها، في الوقت ذاته، ستراعي هواجسهم وتطلعاتهم وفق الموازين الأميركية.
وطبيعيّ أن نتوقّف في سياق التفاهمات الراهنة والمستقبلية المحتملة عند الوضع السوري وإمكانية إيجاد مخرج واقعي له. فالوضع القائم لا يبشّر بأي خير، ولا سيما بعد الانهيارات الحرّة في ميدان الاقتصاد التي جعلت حياة السوريين جميعاً جحيماً لا يُطاق على صعيد فقدان الخدمات، وندرة الكهرباء والماء، والكوارث في قطاعي الصحة والتعليم والارتفاع الجنوني في الأسعار، والوصول إلى حوافّ القيمة الصفرية لليرة السورية. والأمر الأصعب من ذلك كله أنه لا توجد حالياً إمكانية حقيقية لأي علاجٍ ممكن، في حال استمرار بشّار الأسد على رأس السلطة في دمشق، وهو الذي أثبت تباعاً عدم أهليّته لأن يكون رجل دولة في مقدوره جمع شمل السوريين بعد كل ما حصل، كما أكدّ انفصاله عن الواقع، فهو يبحث عن المشكلات أكثر من بحثه عن الحلول، ولا يعتمد أسلوب الدبلوماسية العقلانية، عوضاً عن تصريحاته المعهودة اللامسؤولة المتخمة بالشماتة والاستعلاء على السوريين بسيوف الآخرين، إلى جانب ارتكابه الجرائم التي لا تغتفر بحق السوريين. وهذا فحواه أن على الإيرانيين، إذا كانوا جادّين في فتح صفحة جديدة مع دول الإقليم وشعوبها، أن يحترموا إرادة السوريين وتضحياتهم، لفتح الآفاق أمام بناء أفضل العلاقات بين الشعبين السوري والإيراني، مستقبلاً، ولن يكون هذا من دون التخلّي عن بشّار الأسد المسؤول الأول المباشر عن محنة السوريين ومعاناتهم، فقد بات ورقة محروقة يفوق ضررها نفعها بما لا يُقاس.
العربي الجديد