تتواصل تأثيرات الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها تركيا في شهر مايو/أيار الماضي، رغم انقضاء 3 أشهر على إجرائها، مع تواصل السجالات السياسية داخل تحالفي الحكومة والمعارضة، حيث تعصف المناقشات بين أطراف كل تحالف، في محاولة لإعادة ترتيب البيت الداخلي خلال الفترة المقبلة، تحضيراً للانتخابات البلدية المقررة في نهاية آذار/مارس المقبل.
التحالف الجمهوري الحاكم، الفائز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أجريت أخيراً، يشهد انتقادات مستمرة من قبل أحزاب في داخله، أبرزها الانتقادات اللاذعة التي يطلقها زعيم حزب “الرفاه من جديد” فاتح أربكان، نجل القيادي الراحل نجم الدين أربكان. ويواصل أربكان مهاجمة سياسة الحكومة القائمة على رفع الضرائب ومعاناة المواطنين من الأوضاع الاقتصادية، فيما تشتد السجالات والنقاشات داخل أحزاب المعارضة.
السياسات المالية للحكومة تحت المجهر
واتهم أربكان يوم السبت الماضي، الحكومة التركية، بأنها “تصمّ آذانها عما يتعرض له المواطنون من إرهاق”، معتبراً ذلك “أمراً غير مقبول”. وقال أربكان إن “الحزب السياسي (حزب العدالة والتنمية الحاكم) الذي يلجأ إلى الشعب في كل مشكلة يقع فيها، من غير المقبول ألا يرى ما يعانيه الشعب من إرهاق”.
واعتبر أربكان أن “الشعب التركي منح خلال 22 عاماً الصلاحيات والزمن لحزب العدالة والتنمية، وبدلاً عن التخفي خلف أي سبب ومبرّر، يجب الإقدام على خطوات وتحقيق مطالب الشعب، ومع عودة البرلمان إلى العمل في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، سيتم تقديم مشاريع أعمال من أجل تخفيف أعباء المواطنين، حيث سيعمل خمسة نواب بطاقة 50 نائباً”.
أبرز الانتقادات التي يتلقاها التحالف الجمهوري، تتعلق بسياساته الضريبية
وهذه الملاحظات ليست الأولى التي يُطلقها أربكان، إذ كان انتقد رفع الحكومة للضرائب قبل أكثر من شهر، وهو ما فعله أيضاً الحليف في التحالف الجمهوري، زعيم حزب “الوحدة الكبرى” مصطفى دستجي، الذي انتقد سياسة الحكومة الضرائبية أيضاً، في ظلّ صمت الحكومة ومواصلتها التأكيد من خلال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير المالية محمد شيمشك، أن هذه الإجراءات مؤقتة. وكانت وزارة المالية أصدرت بياناً أوضحت فيه أن رفع الضرائب على المحروقات وغيرها، هو جزء من مساعي الحكومة لسدّ العجز في الموازنة بسبب كارثة الزلازل.
مياه تغلي داخل تحالف المعارضة التركية
على جبهة المعارضة، تبدو المياه متحركة أكثر، والسجالات ساخنة بشكل مستمر، وتزداد سخونة مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية وتشكيل التحالفات في ما بين أحزاب المعارضة. ويأتي ذلك خصوصاً أنه على الرغم من كل الخلافات والتباينات وتبادل التهم بين أحزاب المعارضة، لا توجد خيارات كثيرة أمام الأحزاب لمنافسة التحالف الجمهوري الحاكم، إلا التحالف مجدداً في المنافسة على كبرى المدن التركية وخصوصاً مدينة إسطنبول والعاصمة أنقرة.
أردوغان وأربكان في إسطنبول، مايو الماضي (بوراك كارا/Getty)
تقارير دولية
هل يبقى “الرفاه الجديد” ضمن التحالف الحاكم في تركيا؟
زعيم حزب “دواء”، علي باباجان، وجّه يوم الجمعة الماضي، انتقادات لاذعة إلى زعيم حزب “النصر” المتطرف أوميت أوزداغ، الذي انضم إلى “تحالف الشعب” المعارض في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، باتفاق حينها مع المرشح الرئاسي للمعارضة وزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو. وكشف أوزداغ لاحقاً أنه حصل على تعهد بتولي منصب وزير الداخلية في حال فوز المعارضة بالانتخابات الرئاسية، وهو ما لم يحصل.
وقال باباجان في مقابلة إعلامية: “تابعنا بقلق تحول الخطاب في الفترة ما بين 14-28 مايو/أيار الماضي. الشفافية مهمة، وحزنت على توقيع اتفاق بين كلجدار أوغلو وأوزداغ، وكان اتفاقاً مبنياً على التوتر والقلق، ولم نعترض على كلجدار أوغلو في حواره مع أوزداغ، والمرشح الرئاسي سنان أوغان (كان مرشح اليمين المتطرف وحلّ ثالثاً بنسبة 5 في المائة في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الماضية)، كنت أعترض على أن تكون اللقاءات سرّية”.
كما اعتبر باباجان أن “خوض حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، الانتخابات البلدية لوحده، سيجعله يخسر تلك الانتخابات، ومن يظن أن الشعب الجمهوري يستطيع الفوز بالانتخابات لوحده، فليخض هذا الاستحقاق ويحاول النجاح به ولنراقب ذلك”.
أوزداغ ردّ على تصريحات باباجان يوم السبت الماضية، بقوله عبر حسابه على منصة “إكس” (تويتر سابقاً) مشاركاً كلام زعيم حزب “دواء”: “إذا سألتموني عن الوقاحة، فإن هذا الكلام مثال رائع، يدخل الحزب البرلمان بأصوات حزب الشعب الجمهوري ويستصغره لاحقاً، وفي الوقت نفسه، يدعي بأنه في حال فوز كلجدار أوغلو بالانتخابات بعد دعم حزب النصر واتفاقه، لن يكون هناك التزام بهذا الاتفاق، ما يضع كلجدار أوغلو في موقف المتهم. نترك الأمر لتقدير ناخبي حزب الشعب الجمهوري”.
رئيس حزب “المستقبل” أحمد داود أوغلو، قال في مقابلة له أيضاً قبل أيام إنه “في ما يخص تصريح أوزداغ عن توليه وزارة الداخلية، أقول إن البلد الذي يتولى فيه شخص مثل أوميت أوزداغ وزارة الداخلية، فإننا سنواجه صعوبة في العمل معه، بل صعوبة في العيش معه داخل تركيا”. وردّ أوزداغ على داود أوغلو أيضاً قائلاً: “طالما تتحدث عن المبادئ، فالمسألة من يتعانق مع جماعة الخدمة، ويساوم عبد الله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني)، ومن يعمل مع وحدات الحماية الكردية، من الطبيعي حقيقة أن يصعب على شخص مثل داود أوغلو أن يعيش مع أوميت أوزداغ في البلد نفسه”، مصوباً على فترة رئاسة داود أوغلو للحكومة التركية وتوليه منصب وزارة الخارجية سابقاً.
إبراهيم آباك: مع الاستراتيجية الصحيحة يمكن للتحالف الجمهوري استعادة بلديتي أنقرة وإسطنبول
كما وجّه أحد مسؤولي حزب الشعب الجمهوري في منطقة أوجلار بإسطنبول، انتقادات لزعيمة “الحزب الجيد” ميرال أكشنر، خلال مؤتمر للحزب عُقد في المنطقة يوم السبت الماضي، بقوله في فيديو تمّ تداوله عبر وسائل الإعلام، لم يذكر فيه اسم المسؤول، وموجهاً كلامه إلى مسؤول المنطقة في “الحزب الجيد” سركان يالمان: “تركت السيدة ميرال الطاولة وعادت إليها بعد توافقات، وهذان الذهاب والعودة أدّيا إلى خسارة المعارضة 4 نقاط”، لتحصل مشادة خلال المؤتمر، في مؤشر على توترات داخل الحلفاء.
حالة السجال هذه يمكن إرجاعها إلى مرحلة المحاسبة وإعادة ترتيب الأوراق بين الأطراف السياسية المختلفة، في الفترة الحالية، وخلال الأشهر المقبلة، على أن ترسم ملامح المرحلة القادمة، خصوصاً أن حزب الشعب الجمهوري نفسه شهد توترات داخلية. ولكن يبدو أن الأمور تتجه داخله إلى التهدئة مع إعلان رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الطامح لزعامة حزب الشعب، بدء مشوار الدفاع عن إسطنبول في الانتخابات البلدية المقبلة، فيما ينتظر أن تعلن أكشنر بعد أيام عن خريطة طريقة جديدة لحزبها.
مصير الأحزاب الصغيرة في الانتخابات التركية
وتعليقاً على هذه السجالات السياسية داخل تحالفي الحكم والمعارضة، رأى الصحافي التركي إبراهيم آباك، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “التحالف الجمهوري، وكما قال رئيس حزب الحركة القومية دولت باهتشلي (أحد شركاء “العدالة والتنمية”) أخيراً، سيبقى تحالفاً قوياً خلال الانتخابات المحلية المقبلة”. وأعرب عن اعتقاده بأنه “مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية، سيتبع (أردوغان وباهتشلي) السياسة الصحيحة نتيجة اجتماعات مستمرة وتشاور بينهما رغم انتقادات بقية الأحزاب في التحالف الجمهوري”.
ولفت آباك إلى أنه “بناء على نتيجة الانتخابات التي جرت أخيراً، يمكن أن تجري التحالفات وتقديم مرشح مشترك في المدن والولايات التي تكون فيها أصوات كلا الحزبين عالية، حيث يتنافس حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية، تماماً كما هو الحال في 3 مدن كبيرة”. واعتبر أنه “في ظلّ عدم رضا سكّان إسطنبول وأنقرة عن الخدمات المقدمة من قبل بلديتيهما التابعتين حالياً للمعارضة، ومع الاستراتيجية الصحيحة، من الممكن استعادة هذه المدن من قبل التحالف الجمهوري”.
وشدّد الصحافي التركي على أن “زعيم حزب الرفاه من جديد فاتح أربكان ليست لديه أوراق رابحة في الانتخابات المحلية بطبيعة الحال، ولهذا فإنه ينتقد”، مستبعداً أن يطرح الأخير مرشحين في معظم المدن والبلدات، بل من المرجح أن يواصل تحالفه مع التحالف الجمهوري، ولن ينتقل إلى تحالف الشعب المعارض”.
آباك تحدث عن جبهة المعارضة، معتبراً أن “التحالفات الجديدة تبدو صعبة داخل تحالف الشعب، أو حتى عقد تحالفات جديدة بأسماء أخرى”. وقال إنه “قد تكون هناك مسألة تفكك، لأن كلا من باباجان وداود أوغلو وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) وأوميت أوزداغ، أطراف لا ترغب بالعمل المشترك ولا يملكون دعماً من قبل الحكومة”.
يوسف سعيد أوغلو: استهداف داود أوغلو وباباجان لأوزداغ مرده حصوله على تعهدات ووعود أكثر منهما من كلجدار أوغلو
وختم الصحافي التركي بقوله إنه “لا تتمتع كثير من الأحزاب وأطراف المعارضة بأي خبرة كبيرة في الخدمات البلدية مثل حزب العدالة والتنمية أو حزب الشعب الجمهوري، لهذا السبب لا أعتقد أنه سيكون هناك أي نجاح جاد لها”. ولفت إلى أنه “باستثناء حزب الشعب الجمهوري الذي لديه نسبة 25 في المائة ثابتة (من الأصوات)، فإمكانية وصول تلك الأحزاب إلى تحالفات أو مرشحين (مشتركين) أمر صعب، ما يدفعها إلى إطلاق السجالات والنقاشات ومحاولة تحقيق مكاسب حزبية، وبالنهاية فإن الأحزاب الصغيرة بحاجة للأحزاب الكبيرة”.
من جهته، اعتبر الصحافي يوسف سعيد أوغلو، في حديث لـ”العربي الجديد”، أنه “كان من المتوقع أن تحصل هذه السجالات داخل أحزاب المعارضة في الفترة التي تلي الانتخابات، لأن كل طرف سيدافع عن رأيه في مرحلة ما قبل الانتخابات، وبما أن تحالف المعارضة كبير ويضم أحزاباً من أطياف مختلفة، فإن الخلافات لا بد أن تدبّ في ما بينهم”.
وأضاف سعيد أوغلو: “استهداف داود أوغلو وباباجان لشخصية أوزداغ مرده حصوله على تعهدات ووعود أكثر ربما مما حصلا عليه من كلجدار أوغلو، رغم أكثر من عام من العمل المشترك، فجاء أوزداغ وحصل على أكثر منهما في أسبوع واحد، وهذا ما يدفع كل طرف إلى مهاجمة الطرف الآخر أملاً في تحقيق مواقع مهمة بالانتخابات المحلية المقبلة”.
وتوقع الصحافي التركي أن “يشهد تحالف المعارضة خلال الفترة المقبلة مزيداً من التوترات والسجالات والمناقشات، مع اكتمال مرحلة إعادة ترتيب الصفوف ووضوح الرؤية”، مستبعداً رغم ذلك “أن تكون هناك خيارات أخرى سوى التحالف مجدداً في ظروف أفضل بإسطنبول وأنقرة وكبريات المدن”. لكنه رأى أنه “رغم ذلك، فإن الحوارات والنقاشات المستمرة ستواصل استنزاف المعارضة وتوظيفها من قبل التحالف الجمهوري الحاكم”.
كما اعتبر سعيد أوغلو أن “التحالف الجمهوري ليس بحال أفضل، وربما ينفرط عقده في حال شعرت الأحزاب الصغيرة بأن الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية لا يصغيان لتحذيراتهما وتنبيهاتهما، ورغم ذلك فإن تماسك حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية يجعل انفراط عقد التحالف أمراً ليس سهلاً”، لافتاً إلى أنه “لا خيارات كثيرة أمام الأحزاب الصغيرة”.
العربي الجديد