في 19 أيار ألقى بشار الأسد خطاباً على منصبة الجامعة العربية في القمة التي عقدت في السعودية، بعد عقد تقريباً تم فيه تجميد عضويتها عقب قمع الاحتجاج الشعبي في سوريا، الذي تطور إلى حرب دموية طويلة. ظهور الأسد في القمة العربية هو نتيجة تطبيع إقليمي يجري معه في السنتين الأخيرتين. عملية إعادة سوريا إلى حضن العالم العربي، التي تسارعت في نهاية العام 2021 عند استئناف العلاقات بين نظام الأسد والأردن وتعززت عقب الزلزال الذي ضرب الدولة في شباط 2023، في حينه قُدمت لسوريا مساعدات كبيرة من دول المنطقة، كانت ذروتها استئناف العلاقات بين سوريا والسعودية بعد شهر. عملية التطبيع تسترشد بصفقة عربية بقيادة الأردن تهدف إلى رسم الطريق لإنهاء الصراع في سوريا. نقاطها الأساسية الاعتراف بحكم الأسد وضخ الأموال من دول الخليج لإعادة إعمار سوريا المدمرة مقابل إعادة اللاجئين إلى سوريا، ووقف صناعة المخدرات التي يديرها الأسد والتي تغرق الشرق الأوسط بحبوب الكبتاغون وانسحاب القوات الأجنبية من الأراضي السورية.
مع ذلك، وبشكل غير مفاجئ لم يعبر النظام عن التزامه بتنفيذ أي شرط من الشروط التي طرحت. في هذه المرحلة، يحصل الأسد على الشرعية كهدية بدون مقابل. وفي المقابلة التي أجراها الأسد مؤخراً مع شبكة “سكاي نيوز” بالعربية، لم يوفر انتقاداً للدول العربية، وقال إن عودة سوريا إلى حضن العالم العربي رسمية بالأساس، بدون صلة جوهرية بين النظام ومعظم هذه الدول. لأنها ليست مؤسسة حقيقية، حسب أقواله الجامعة العربية. في المقابل، أشار الأسد بخصوص علاقاته مع روسيا وإيران، إلى أنها تثبت بأن النظام يعرف كيفية اختيار الأصدقاء جيداً.
في الوقت الذي تحظى فيه مكانة سوريا الإقليمية بالاهتمام المتجدد في أوساط الدول العربية وكأنها دولة ذات سيادة وقادرة على العمل، فإن فحص الوضع الداخلي فيها يكشف صورة قاتمة من استمرار الحكم المستبد الذي يتميز بضعف الأداء والقدرة الجزئية فقط على تقديم الخدمات في مجال السيطرة والأمن وفرض النظام.
عشر سنوات من حرب أهلية وقمع عسكري عنيف أدت إلى جعل سوريا دولة فاشلة ومتفككة مع عدم وجود رغبة في إعادة الإعمار أو تحسين الوضع من قبل رئيسها. في الحقيقة، منذ الخطاب الاحتفالي الذي ألقاه الأسد على منصة الجامعة العربية، ووضع سوريا الاقتصادي والأمني بقي في حالة تدهور.
دولة جائعة – انخفضت الليرة السورية في آب إلى الحضيض، وسعرها الآن 15 ألف ليرة للدولار (47 ليرة قبل الحرب)، ارتفاع يبلغ 70 في المئة على أسعار السلع الأساسية، والبنى التحتية لا تعمل، وبات الجمهور في احتجاج ضد النظام مؤخراً. بدأت المظاهرات بعد فترة قصيرة على قرار الرئيس مضاعفة الأجور ومخصصات التقاعد لموظفي القطاع العام، في حين أن معظم الشعب يعاني الفقر والجوع. بدأت الاحتجاجات في أوساط الدروز في جنوب سوريا، وهي المنطقة التي يحكمها النظام، وامتدت إلى مناطق أخرى تحت سيطرة المعارضة. طالب المتظاهرون بتحسين الوضع الاقتصادي واستئناف دعم الخبز والوقود وتزويد الكهرباء بشكل منتظم، ولكن سرعان ما توسعت الطلبات الاقتصادية إلى طلبات سياسية، التي في أساسها دعوة لإسقاط النظام وإطلاق سراح سجناء وإقصاء وجود إيران وروسيا عن الدولة. الاحتجاجات لا تشكل تهديداً حقيقياً للنظام في هذه المرحلة، لكن هناك إمكانية كامنة لتصعيدها وتوسيعها عقب وضع بائس للمواطنين.
مخدرات الأسد – الأزمة الاقتصادية في سوريا والعقوبات الدولية التي فرضت عليها زادت من ظاهرة إنتاج المخدرات والاتجار بها، لا سيما حبوب الكبتاغون، برعاية النظام ووحدات في الجيش، التي تحقق أرباحاً ضخمة من هذه الصناعة. حبوب الكبتاغون تغرق الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، بالأساس الأردن والسعودية ودول خليجية أخرى. يقدر الخبراء بأنه تم ضبط حبوب كبتاغون منذ نيسان الماضي بمبلغ مليار دولار تقريباً في المنطقة. وبالتالي، فإن التطلع إلى توقف الأسد عن نشر المخدرات، الظاهرة التي هو المسؤول عنها، كان من بين الدوافع لاستئناف العلاقات مع نظامه.
الأردن القلق جداً من انتشار المخدرات فيه، تبنى سياسة مزدوجة أمام النظام السوري؛ فمن ناحية، يزيد معه التعاون الاستخباري والعملياتي لمكافحة الظاهرة. في المقابل، على أساس الفهم الذكي بأن النظام لا ينوي وبحق وقف إنتاج المخدرات والاتجار بها، يتخذ الأردن خطوات عنيفة واستثنائية، من بينها هجمات جوية على مختبرات المخدرات، وآخرها كان في بداية أيلول الحالي، وتصفية تاجر مخدرات في جنوب سوريا في أيار، واعتراض حوامات تحمل المخدرات والسلاح إلى أراضي المملكة. لا تقتصر المخدرات السورية على منطقة الشرق الأوسط. فقد نشر في ألمانيا مؤخراً بأنه تم الكشف عن مختبر سوري للمخدرات وعن حبوب كبتاغون بمبلغ 20 مليون دولار. وثمة تقدير بأن حجم اختراق المخدرات لأوروبا قد يزداد عقب رغبة سوريا في جني الأرباح.
موجات عنف وإرهاب – إن تصفيات داخلية ومواجهات عنيفة بين مجموعات مختلفة في سوريا تعد ظاهرة روتينية في الدولة. تبين في الأشهر الأخيرة أنها وصلت إلى رقم قياسي جديد. بقيت منطقة تسود فيها الفوضى جنوبي الدولة، وتشهد مواجهات بين قوات النظام ومعارضيه. وفي الشمال الغربي، كثفت قوات النظام والقوات الروسية الهجمات ضد تنظيمات المعارضة وقامت بالقصف العشوائي، بما في ذلك هجوم على سوق الخضراوات في إدلب في 25 حزيران الماضي، الذي تسبب بعشرات المصابين و13 قتيلاً. في المنطقة نفسها، قام تنظيم للجهاد باسم “أنصار التوحيد” الموالي للقاعدة، لأول مرة منذ سنوات، بتفجير نفق تحت موقع عسكري سوريا، الذي تسبب بقتيل في صفوف الجيش.
أما شرقي الدولة، في منطقة دمشق، فينفذ تنظيم”الدولة” الإرهابي مؤخراً عدة عمليات دموية لم يشاهد مثلها منذ 2018 وتسببت بخسائر كثيرة لقوات الجيش السوري. البارز منها في بداية آب، كمين أطلقت منه النار على حافلة لقوات الجيش في منطقة دير الزور تسبب بقتل 30 شخصاً. في بداية أيلول، ازدادت عمليات إطلاق النار بين مليشيات قبلية ومقاتلين أكراد على خلفية الصراع على السيطرة في دير الزور. هذا التطور إذا ازداد، قد يقوض استقرار التحالف بين الأكراد (برئاسة منظمة القوات السورية الديمقراطية اس.دي.اف) وبين القبائل العربية التي تحارب “الدولة” برعاية أمريكا. كل ذلك يدل على سيطرة ضعيفة للأسد في الدولة، بما في ذلك المناطق التي تحت سيطرته، وتظهر فجوة بين مكانته الإقليمية وضعفه في الداخل.
ازدياد التوتر والمواجهات العسكرية لا يقتصر فقط على القوات المحلية في سوريا، بل ينزلق أيضاً إلى العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة التي تعمل في المنطقة: الأمريكيون يشتكون من مضايقات الطائرات الروسية التي تخرق الفضاء الجوي الذي تعمل فيه قواتها في إطار محاربة داعش. في نهاية تموز، تسببت طائرة حربية روسيا بالضرر لطائرة مسيرة أمريكية في سماء سوريا عندما كانت في مهمة تتعلق بمحاربة تنظيم إرهابي. حسب الولايات المتحدة، كان هذا جزءاً من مؤامرة مشتركة بين موسكو وطهران لإضعاف القوات وجعلها تنسحب من سوريا.
السلاح الإيراني والهجمات الإسرائيلية – وضع الفوضى هذا يسمح لإيران وأذرعها بالعمل بشكل حر تقريباً في سوريا، وتعميق سيطرتها على الجيش الذي ترتبط إعادة بنائه وأدائه بمساعدات طهران. وتركيز روسيا على الحرب في أوكرانيا يسهل على إيران توسيع نشاطاتها وتعميق تعاونها النظامي والعسكري مع النظام. المعهد الأمريكي لأبحاث الحرب (انستيتيو اوف وور) أشار في التقرير الذي نشره في حزيران 2023 إلى أن “فيلق القدس” التابع لحرس الثورة، و”حزب الله”، أقاما قيادات وقواعد عسكرية أخرى في شرق الدولة، منها مخازن سلاح ومعسكر للتدريب ومبان سكنية. هذا في إطار جهود إيران لحماية خطوط المواصلات في أرجاء الدولة، بما في ذلك إلى هضبة الجولان ولبنان.
أمام جهود التمركز واستمرار نقل السلاح من إيران، تستمر إسرائيل في المعركة بين الحربين، وتعزز هجماتها في سوريا، مع التأكيد على أهداف للنظام، التي هي على الأغلب متماهية مع نشاطات إيران. التنظيم السوري لحقوق الإنسان نشر في آب تقريراً بحسبه هاجمت إسرائيل الأراضي السورية 26 مرة منذ بداية السنة الحالية. في الهجوم الذي نفذ في 28 آب في مطار حلب الدولي، تم تدمير قافلة عسكرية إيرانية شملت معدات حساسة (ربما مثل المرتبطة بالدفاع الجوي)، وكما حدث في المرات السابقة، ففي هذه المرة أيضاً تم إغلاق المطار، قبل أن يعود للعمل بعد بضعة أيام. في 13 أيلول حدثت هجمات غربي سوريا، في المطار العسكري “الشعيرات”، وقبل ذلك في طرطوس، كما يبدو ضد مواقع دفاع جوي.
على خلفية التطبيع الإقليمي مع الأسد وفي الوقت الذي تتفشى فيه الفوضى في الداخل، وتصمم سوريا وإيران على الحفاظ على سيطرتهما في الدولة، فإنه يجدر بالدول العربية طرح طلبات متشددة أكثر أمام الأسد، وأن تربط تعميق التطبيع مع سوريا وتقديم المساعدات المالية لها مع اتخاذ خطوات ملموسة من قبل النظام. ويجب أن يكون وقف صناعة حبوب الكبتاغون ومحاربة داعش وزيادة الحوكمة في الجنوب وفي المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام وتقليص الحضور الإيراني في الأراضي السورية. بخصوص إسرائيل، فإن المكانة الإقليمية المتعززة للأسد وثقته المتزايدة بنفسه ربما تقلصان استعداده لاستيعاب الهجمات الإسرائيلية وتدفعانه إلى الرد. أيضاً الهجمات الإسرائيلية خلال عشر سنوات، لم توقف جهود الإعداد العسكري لإيران وأذرعها في سوريا. من هنا، المطلوب إلى جانب تحسين وتحديث المعركة العسكرية للجيش الإسرائيلي في سوريا، أن توسع إسرائيل سياستها بخصوص هذه الدولة أيضاً إلى المعركة الدبلوماسية، وأن تعمق الحوار والتعاون مع الدول العربية التي تتقاسم معها المصالح المشتركة بالنسبة لها. إن دمج الجهود العسكرية والدبلوماسية قد تحسن الرد على التحديات الأمنية التي تواجهها إسرائيل في هذه الساحة.