تزايدت حوادث العنف ضد العرب في تركيا بشكل مفاجئ بعد الانتخابات العامة التي جرت في وقت سابق من العام الجاري. بدت الأحداث فردية في البداية، ولكن مع تصاعد حدتها مع مرور الأيام اتضح أن هناك من يتلاعب بانتظام برموز المجتمع التركي. وقد قُتل أو جُرح العديد من الأشخاص في الأشهر القليلة الماضية جراء هذا الوضع. ففي منطقة «باشاك شهير»، قُتل شاب فلسطيني كان والده في المعتقلات الإسرائيلية، وفي «تقسيم» قُتل أب مغربي كانت ابنته طالبة جامعية في تركيا على يد سائق سيارة أجرة. وفي النهاية، اتسعت رقعة الأحداث وامتدت إلى العديد من الولايات التركية، وكان آخرها في طرابزون التي يعشقها السياح العرب، إذ تعرض سائح كويتي للضرب في قلب المدينة أمام أعين زوجته وبناته، وتم نقله إلى المستشفى وخضع للعلاج ثم بعد خروجه سارع وفد من المسؤولين الأتراك، بينهم مدير أمن المنطقة، لزيارته في مكان إقامته من أجل الاطمئنان على صحته.
إذا كانت حوادث العنف تتزايد تدريجيا في مجتمع ما، فيمكننا أن نرى بكل وضوح أن هناك عملية مدبرة وراء ذلك. تركيا دولة شهدت بشكل مكشوف مثل هذه العمليات خلال محاولة انقلاب 15 يوليو 2016 والهجمات الإرهابية السابقة، التي كانت تهدف لإسقاط الحكومة، ولذلك، علينا الآن أن نرى أن أعمال العنف المتصاعدة ضد العرب في الأشهر الأخيرة هي عملية ومؤامرة ضد تركيا. وأوضح دليل على ذلك هو أن الصفحات التي تهاجم تركيا على مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي، والصفحات المسيئة للعرب في تركيا، يتم توجيهها من المراكز نفسها، سواء في الداخل أو الخارج. نرى كيف يقومون بنشر تدوينة مسيئة لتركيا عبر حساب مشبوه، أو صفحة وهمية تبدو وكأنها تدار من العالم العربي، وفجأة تترجم تلك التدوينة إلى اللغة التركية وتنشر على نطاق تركيا قبل أن تنتشر أصلا بين رواد ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في الدول العربية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحسابات الوهمية التي تنشر تدوينات مسيئة للعرب في تركيا، ويجري تداولها بشكل سريع ومريب في العالم العربي قبل أن يعلم بها الشارع التركي. هذه الأمور وحدها تكفي لإثبات وجود مؤامرة وخطة واضحة هدفها تحريض الأتراك والعرب ضد بعضهم بعضا، وبالتالي استهداف تركيا والبلدان العربية.
نلاحظ أن ولاياتنا ووزاراتنا تحاول التغطية على الأحداث، باعتبارها حالات عادية وفردية، متناسية الخارج، وتكتفي بنشر التصريحات التي تطمئن الداخل فقط
لقد واجهت شخصا حادثة مشابهة جعلتني أقتنع أكثر بوجود عملية مدبرة وراء الأحداث الأخيرة. فقبل بضعة أسابيع، بينما كنا متجهين إلى منطقة الفاتح في إسطنبول بسيارة أجرة، تشاجرنا مع السائق، بعد أن قام بطريقة فظة بإلقاء الشتائم على العرب، وأساء بشكل سافر للرئيس أردوغان. اضطررت للنزول من السيارة وسرعان ما اختفى السائق الذي اعترف في البداية بأنه كان موظفا حكوميا سابقا وفقد وظيفته لسبب ما، وأنه مستاء من الوضع وسعى جاهدا لكي يساهم في خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، ولكن من الواضح أن استياءه وغضبه ازداد أكثر بعد فوز الحزب والرئيس أردوغان في الانتخابات، ولذلك رأيت أنه يحاول خلق الفوضى. المثير في الأمر أن سائق التاكسي كان يوجه الشتائم من جهة ويحاول من جهة أخرى أن يغطي قذارته وعدوانيته وشره عبر الألفاظ والعبارات القومية، ولكن عندما اكتشفت من كلامه أنه ليس قوميا، حاول هذه المرة أن يظهر نفسه من التيار اليساري. نعلم جميعا أن هذه المسرحية واجهتها تركيا مرات عدة في السابق، وقد شهدنا نسخا مشابهة مرارا وتكرارا. ويلاحظ أن حوادث العنف هذه تتزايد بشكل لا يمكن السيطرة عليه، من أجل استفزاز وتحريض شعبنا في إطار عملية تقف خلفها دوائر معادية لتركيا. ومن الواضح أيضا أن المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة تنشر عبر الصفحات الوهمية عن وعي وتعمد. ويمكن أن نرى بوضوح وجود محاولات لتقويض ثقة الشعب بالدولة من خلال موجة العنصرية المراد خلقها في تركيا والعالم العربي عبر الشبكات الاجتماعية. ألا تنزعجون من فيديوهات المواجهات والمداهمات التي يمارسها أشخاص يتصرفون مثل المافيات؟ ألا تجعلهم هذه التصرفات العنصرية والمافيوية المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تشعرون بالضيق وتقودكم للتساؤل عن الدولة وسبب تقاعسها؟ ألم يحن الوقت لكي نرى المؤامرات والألاعيب التي تحاك ضدنا؟ تعرض العديد من الأشخاص للعنف في تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية، بينهم يمنيون ومغاربة وفلسطينيون وكويتيون وقطريون ومصريون وسوريون، وأثارت أخبار هذه الأعمال ضجة كبيرة في العالم العربي، ونلاحظ أن ولاياتنا ووزاراتنا تحاول التغطية على الأحداث، باعتبارها حالات عادية وفردية، متناسية الخارج، وتكتفي بنشر التصريحات التي تطمئن الداخل فقط. من المؤسف أن الجميع، باستثناء عدد قليل من المؤسسات، يتجاهلون انعكاسات هذا الأمر وتداعياته في العالم العربي، فالعديد من الدول العربية بدأت بالفعل في تحذير مواطنيها من السفر إلى تركيا، كما نرى للأسف إطلاق دعوات وحملات لمقاطعة المنتجات التركية في بعض المجتمعات العربية. تجاوز الأمر البعد السياحي للأحداث، ويتم الآن التشكيك في إنسانية تركيا وقيادتها الإقليمية. والسمعة الطيبة والصورة الحسنة التي تشكلت طيلة 22 عاما، لحقتها أضرار كبيرة في الأشهر القليلة الماضية. وينبغي للسلطات أن لا تكتفي بإدانة الأحداث، بل يجب عليها القبض فورا على مرتكبي هذه الهجمات والعمليات الدنيئة ومعاقبتهم من خلال إجراءات ملموسة وواضحة ووقائية. وفي هذا الصدد، وجه رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام) الدكتور أحمد أويصال، تحذيرات في غاية الأهمية، بقوله: «إن الأضرار الناجمة عن الاعتداءات المستمرة ضد العرب، بمن في ذلك اللاجئون والسياح والمستثمرون، كبيرة جدا، وقد حدث هذا الضرر في فترة ما بعد الانتخابات، وكأن أوميت أوزداغ هو الذي انتصر فيها. إذا لم يتم اتخاذ تدابير عاجلة، فإن كل ما أنجزته مؤسساتنا الدبلوماسية طيلة سنوات سوف تضيع هباء بسبب الأعمال التي جرت خلال هذه الأشهر القليلة».
خلاصة الكلام؛ ومن المستحيل على الإطلاق تعريف هذه الأحداث بأنها عنصرية أو قومية. ولا شك في أن مثل هذه الأحداث مرتبطة بالقطاع السياحي الذي يعد أحد أهم مصادر العملة الأجنبية للاقتصاد التركي، ويساعد على تجاوز الأزمة الاقتصادية بخسائر أقل، وهي تلحق ضررا كبيرا بالاقتصاد وأجواء الطمأنينة وسمعة البلاد في العالم. والأهم من ذلك أنها تلحق ضررا كبيرا بالسياسة الخارجية السلمية التي تنتهجها تركيا. ولذلك لا بد من إيجاد تعريف آخر لمثل هذه الأحداث، وهو: الإرهاب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. علينا أن نعي جيدا، أن هدف هذه الهجمات هو تركيا واقتصادها وسلمها الاجتماعي واستقرارها السياسي، وكذلك العلاقات القوية التي بدأت تركيا في تأسيسها من جديد مع العالم الإسلامي. ولهذه الأسباب، لا بد من التحقق مما إذا كانت حوادث الاعتداء والتحرش والعنف هذه، التي أصبحنا نسمعها كل يوم تقريبا، لها ارتباطات تنظيمية سواء في الداخل أو الخارج.