لغز استهداف ثكنة حمص

لغز استهداف ثكنة حمص

اشتعلت الأوضاع على الجبهات السورية في أكثر من منطقة، إثر تطورين مهمين شهدتهما الأيام الماضية، ففي حين كانت تركيا تواصل استهداف مواقع مناطق سيطرة المقاتلين الأكراد في شمال شرق سورية، كان النظام السوري ينتقم من المدنيين عبر قصف مكثف على مناطق تقع تحت سيطرة المعارضة في شمال غربي البلاد، رداً على الهجوم الذي استهدف الكلية الحربية في مدينة حمص أمس الأول الخميس.

ولا تزال علامات استفهام كبيرة تلف هذا الهجوم، خصوصاً هوية الجهة المسؤولة عنه، في ظل البُعد الجغرافي الكبير نسبياً لأماكن تواجد فصائل المعارضة و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وعدم امتلاك هذه الجهات مسيّرات قادرة على قطع مسافات طويلة وصولاً إلى حمص.

وأعلنت وزارة الصحة في حكومة النظام، أمس الجمعة، ارتفاع حصيلة الهجوم على الكلية الحربية في حمص خلال حفل تخريج دفعة من طلابها، إلى 89 قتيلاً، و277 جريحاً. فيما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أمس الجمعة أن حصيلة القتلى ارتفعت إلى 123، بينهم 54 مدنياً، في هذا الهجوم الذي لم تتبنه حتى عصر أمس أي جهة، علماً أنه من الأكثر عنفاً ضد مركز عسكري للنظام منذ بدء النزاع في العام 2011.

تصعيد النظام السوري ضد المدنيين
ومع ارتفاع أعداد ضحايا الهجوم، صعّد النظام السوري وروسيا من عمليات القصف الجوي والبري على مناطق تقع تحت سيطرة المعارضة في شمالي غرب البلاد، ما أوقع قتلى وجرحى بين المدنيين، وذلك في إطار ما يقول النظام إنه رد على “مجزرة” الكلية الحربية والتي برزت أصوات عدة تشكك في وقوف المعارضة خلفها لأسباب عسكرية فنية.

وتسبّبت هجمات النظام في مناطق مختلفة من شمال غربي سورية ليل الخميس وأمس الجمعة، في مقتل 13 مدنياً وإصابة 62 آخرين، إذ جرى استهداف الأسواق الشعبية والأحياء السكنية وأربع مدارس ومسجد ومركز للدفاع المدني السوري، ومرفق للكهرباء، ومحطة للمحروقات، وفق بيان للدفاع المدني السوري.

القصف على مناطق سيطرة المعارضة أمس، والذي شارك فيه الطيران الحربي الروسي، تسبّب في نزوح عشرات العائلات

وذكر مراسل “العربي الجديد” أن القصف على مناطق سيطرة المعارضة أمس، والذي شارك فيه الطيران الحربي الروسي، تسبّب أيضاً في نزوح عشرات العائلات من مناطق قرب خطوط التماس جنوبي وشرقي إدلب إلى شمالها. وكان جيش النظام السوري قد اتهم الخميس “التنظيمات الإرهابية المسلحة المدعومة من أطراف دولية معروفة”، بالوقوف خلف الاستهداف “عبر مسيّرات تحمل ذخائر متفجرة”. وأكد أنه “سيردّ بكل قوة وحزم على تلك التنظيمات الإرهابية أينما وجدت”.

في المقابل، قصفت فصائل “غرفة عمليات الفتح المبين” براجمات الصواريخ مناطق في ناحية جورين بسهل الغاب في ريف حماة، ما تسبب في مقتل شخص وإصابة 3 آخرين وفق وسائل إعلام النظام.

وشجب الائتلاف الوطني السوري المعارض هذا التصعيد من جانب النظام وروسيا، مشيراً إلى أنه جرى منذ يوم الخميس استهداف أكثر من 25 مدينة وبلدة بالقصف العشوائي في كل من ريفي حلب وإدلب. ولمّح بيان الائتلاف إلى مسؤولية النظام عن تفجير الكلية الحربية، قائلاً إنه مسؤول بالتعاون مع مليشيات إيرانية عن “استهداف المواطنين من مكونات الشعب السوري كافة، بعمليات إجرامية وإرهابية ندينها بأشد العبارات، هذه العمليات شملت مناطق تقع تحت سيطرته منذ بداية الثورة في العام 2011 وحتى يومنا هذا، هدفها زرع الخوف، والعداء، والتفرقة بين السوريين باتباع سياسة فرّق تسد، ولضمان استمرار حالة الفوضى وعدم الاستقرار”.

وأكد الائتلاف شجبه “لأي أعمال عسكرية أو إرهابية تستهدف الأطفال والمدنيين العزّل، داخل سورية وخارجها وأياً كان مرتكبوها”، مطالباً مجلس الأمن والمجتمع الدولي بإدانة جرائم النظام، والخروج من حالة الاستعصاء التي تحول دون التقدم في العملية السياسية.

تنديد من حلفاء النظام
وجرى صباح أمس تشييع الضحايا من أمام المستشفى العسكري في حمص. وقال وزير دفاع النظام علي عباس للصحافيين: “ثمن الكرامة والعزة للوطن كبير وأعز ما يمكن أن يقدمه إنسان هو نفسه. الشهداء الذين ارتقوا، ثمن دمائهم غالٍ جداً”. علماً أن مصادر متعددة أكدت أن عباس كان حاضراً خلال حفل التخرج، وغادر قبل دقائق من القصف.

واعتباراً من صباح أمس الجمعة، بدأ الحداد الرسمي الذي أعلنته حكومة النظام في مناطق سيطرتها، ويستمر لثلاثة أيام، مع تنكيس للأعلام في مناطق سيطرة النظام والسفارات والهيئات الدبلوماسية في الخارج، فيما دعت وزارة الأوقاف إلى إقامة صلاة الغائب عقب صلاة الجمعة، في جميع المساجد.

وندّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رسالة تعزية إلى رئيس النظام بشار الأسد، وفق الكرملين، بالهجوم “الإرهابي”. وقال: “نأمل أن تتم معاقبة منظميه”، مؤكداً عزمه “مواصلة تعاوننا الوثيق مع شركائنا السوريين لمكافحة كل أشكال الإرهاب”.

كما دان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي “بشدة” الهجوم، محملاً من سماهم “الحماة الأجانب للمجموعات الإرهابية، ومنهم محتلو الأراضي السورية” مسؤولية الهجوم. وأضاف رئيسي وفق موقع الرئاسة الإيرانية، أن الهجوم يستهدف “منع تحقيق الاستقرار والأمن الكامل” في سورية، قائلاً إنه ناتج عن “استمرار الدعم الأمني والاستخباري اللوجيستي” للمجموعات المسلحة.

من جهتها، طالبت وزارة خارجية النظام في بيان لها، الأمم المتحدة ومجلس الأمن بإدانة ما وصفته بـ”العمل الإرهابي الجبان”، داعية لمساءلة الدول “الراعية للإرهاب عن جرائمها بحق الشعب السوري”.

قوات النظام السوري (محمد ابازيد/ فرانس برس)
أخبار
أكثر من 100 قتيل بهجوم مسيرات على الكلية الحربية للنظام السوري بحمص
تشكيك في رواية النظام
وفي حين كانت تتفاعل قضية القصف، فإن تساؤلات كبيرة تبقى قائمة حول من يقف وراء هذا الهجوم، فهناك تشكيك في رواية النظام بعدما اتهمت وزارة الدفاع التابعة له “التنظيمات الإرهابية المسلحة المدعومة من أطراف دولية معروفة” باستهداف حفل تخريج طلاب ضباط الكلية الحربية في حمص “عبر مسيّرات تحمل ذخائر متفجرة”.

ونشرت صفحة “صدى الساحل السوري” على “فيسبوك”، التي تدار من تركيا بحسب ما تظهره معلومات الصفحة، رواية قالت إنها لمدير الدفاع المدني في حمص العميد الركن غياث عاقل من دون أن توضح لمن أدلى بالحديث. وبحسب روايته قال عاقل: “أُبلغنا بوجود طائرات مسيّرة انطلقت من منطقة الوعر واقتربت من مبنى الكلية الحربية قبل نصف ساعة من وقوع الاستهداف. وطلب وزير الدفاع توضيحاً من ضباط الأمن في الكلية، بعد أقل من عشر دقائق، جاء الرد من مكتب التنسيق العسكري بأن الطائرات المسيّرة إيرانية وأن تواجدها روتيني ويومي”.

وأضافت: “بعد تلقي الرد بدقائق، وصلت توجيهات للسيد وزير الدفاع من جهات عليا بضرورة اختصار مراحل الاحتفال والإسراع بفض التجمع بدون توضيح الأسباب. أعطى الوزير تعليماته بهذا الخصوص وأوكل مهمة إلقاء كلمته لنائبه الثاني – ولم تلق الكلمة- وغادر بشكل فوري مع موكبه المكان بدون أن يحضر العرض النهائي، وبعد مغادرة وزير الدفاع واللجنة العسكرية المرافقة له بـ42 دقيقة تماماً حصل الاستهداف”.

لكن شاهد عيان من أهالي الضحايا تحدث لـ”فرانس برس” أكد أن عباس كان حاضراً خلال حفل التخرج، وغادر قبل دقائق من القصف، ما يعكس تضارباً في الروايات حول الزمن الفاصل بين مغادرة عباس ووقوع القصف.

تبعد الكلية الحربية شمال غربي مدينة حمص عن أقرب جبهة قتال مع المعارضة أكثر من 100 كيلومتر

وتبعد الكلية الحربية شمال غربي مدينة حمص عن أقرب جبهة قتال مع المعارضة أكثر من 100 كيلومتر بمحاذاة معرة النعمان جنوبي محافظة إدلب. وتبعد عن أماكن تمركز “جيش سورية الحرة” المدعوم من الولايات المتحدة في قاعدة التنف نحو 160 كيلومتراً، وعن مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شرق نهر الفرات أكثر من 300 كيلومتر.

وفي السياق، شكك المحلل العسكري العميد أحمد رحال في رواية النظام التي تتهم المعارضة بالمسؤولية عن هذا الهجوم. وقال رحال في حديث لـ”العربي الجديد”، إن المسافة بين مناطق وجود فصائل المعارضة في الساحل السوري وإدلب وأرياف حلب تتراوح بين 110 و190 كيلومتراً، وليست لدى الفصائل مسيّرات تستطيع قطع هذه المسافات.

وأضاف أن المناطق التي من المفترض أن تمر بها هذه المسيّرات ينتشر فيها الكثير من قواعد الدفاع الجوي التابعة للنظام وروسيا، ومن المفترض أن يتم اكتشاف واعتراض أي مسيّرات قبل أن تصل إلى حمص. ولفت إلى أنه يعرف بحكم خدمته العسكرية في جيش النظام، أنه خلال الاحتفالات وتخريج الطلاب من الكليات الحربية، يتم رفع جاهزية وسائط الدفاع الجوي لحماية مكان الاحتفال، خصوصاً بحضور وزير الدفاع ورئيس الأركان ومحافظ حمص.

وأشار رحال إلى أنه يوجد على بعد 20 كيلومتراً من الكلية الحربية في شمالي غرب حمص مطار الضبعة، وهو مركز للتدريب على طائرات الدرونز المنتجة محلياً بإشراف إيران، مشيراً إلى أن العديد من صفحات النظام لم تتهم المعارضة بالمسؤولية عن الهجوم، وذهب بعضها إلى اتهام إيران صراحة أو ضمناً. وشبّه ما حدث في الكلية الحربية بتفجير خلية الأزمة عام 2012، الذي اتخذه النظام منطلقاً لاستخدام القبضة الحديدية ضد المعارضة، وكبح المنادين بالحلول السلمية، أو تقديم تنازلات للمحتجين.

وحول إمكان التصعيد العسكري من جانب النظام باتجاه الشمال السوري، أعرب رحال عن اعتقاده بأن “يحاول النظام إعادة البلاد إلى ساحة الحرب مرة أخرى من خلال التصعيد الميداني، مع الإشارة إلى أنه بعد 4 أيام هناك محاكمة للنظام في لاهاي، وهو يريد أن يقول إننا نحارب الإرهاب، ولا ينبغي لأحد أن يحاسبنا”. لكنه توقع أن تتمكن روسيا بالتنسيق مع تركيا من ضبط ردود النظام، وحصرها في إطار ضيق قدر الإمكان.

فحام: الطائرات المسيّرة التي بحوزة التنظيمات (باستثناء المرتبطة بإيران) بسيطة ولا تستطيع التحليق لمسافات كبيرة أو حمل متفجرات ذات وزن ثقيل

من جهته، اعتبر الباحث فراس فحام أن الهجوم على الكلية الحربية في حمص مريب للغاية، مشيراً في تعليق له على منصة “إكس” إلى أن الطائرات المسيّرة التي بحوزة التنظيمات (باستثناء المرتبطة بإيران) بسيطة ولا تستطيع التحليق لمسافات كبيرة أو حمل متفجرات ذات وزن ثقيل. ولفت إلى أن الهجوم حصل بعد مغادرة وزير الدفاع وكبار الضباط، وجرى استهداف طلاب الكلية الحربية مع عوائلهم، ما يثير التساؤل لماذا لم تقم الجهة المنفذة باستهداف الحفل أثناء وجود الضباط الكبار لتعظيم الخسائر؟

بدوره، تساءل مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن، في تعليق له عبر فيديو مصور، عن كيفية تمكّن منفذ الهجوم من الوصول بهذه السهولة إلى تلك المنطقة المحمية بالرادارات ومنظومات الدفاع الجوي، ولماذا جرت الضربة بعد مغادرة وزير الدفاع وكبار الضباط. واستبعد تورط “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) بالهجوم، متسائلاً: “هل وصلت الهيئة لهذه القوة بأن ترسل المسيّرات من مناطقها إلى حمص؟”.

من جهته، قال الباحث فيم زفيننبرغ لوكالة “رويترز” إن “مقاتلي المعارضة من المتشددين بدأوا استخدام طائرات مسيّرة محلية الصنع في أوائل عام 2018 بهجمات شملت استهداف قاعدة حميميم الجوية الساحلية، حيث مقر العمليات الروسية في سورية”. وأضاف أنه “مع عدم ظهور أشلاء في لقطات مصورة عن الهجوم، لا يمكن استخلاص إلا القليل من النتائج عن نوع الطائرات المسيّرة أو حمولتها”.

وإزاء الغموض القائم، لفت الباحث في الشأن السوري في مركز “سنتشوري إنترناشونال” آرون لوند إلى أنه لا تتوفر حتى اللحظة “تفاصيل كافية للتكهن” بهوية الجهة المنفّذة. وقال لوكالة “فرانس برس”: “رأينا في السابق هجمات كثيرة بطائرات مسيّرة انطلاقاً من إدلب، بما في ذلك استهداف الطائرات الروسية في قاعدة حميميم على الساحل، لكن التفاصيل حول من شغّل تلك المسيّرات كانت دائماً غامضة نوعاً ما”.

وأضاف: “هل هي هيئة تحرير الشام، أم تركيا، أم خليط من الاثنتين؟”، لافتاً إلى أن كلا من هذه الأطراف قد يكون نفّذ الهجوم. واستبعد لوند مسؤولية النظام عن الهجوم، انطلاقاً من أن “هذا النوع من الفوضى والخسائر في الأرواح يجعل القيادة السورية تبدو سيئة في دائرة ناخبيها الأساسيين”.

وشرح أن “الجيش هو العمود الفقري للنظام السوري، والكلية الحربية في حمص هي حيث يتدرّب ضباطه منذ نشأة الدولة السورية”، مشيراً إلى أن كل الذين “يمسكون بزمام الأمور في سورية” عسكرياً، تخرجوا منها. ولم يستبعد “بالنظر إلى كيفية عمل النخبة الأمنية في سورية، مع مقدار روابط الدم والزبائنية التي تبقيها متماسكة، أن بعض من قتلوا هم بلا شك من عائلات عسكرية من الجيل الثاني أو الثالث، أي من أبناء كبار الضباط وأبناء أشقائهم”، وأقاربهم.