بفعل السياسات والممارسات المنحازة إلى إسرائيل، تخاطر الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الأوروبية بفقدان قدرتها على التأثير في مجريات الحرب الوحشية على غزة.
يبدو أن حكومة الحرب الإسرائيلية تعتبر انحياز الحكومات الغربية والزيارات المتكررة لمسؤوليها إلى تل أبيب بمثابة ضوء أخضر لمواصلة قصف غزة وتنفيذ الهجوم البري عليها وارتكاب جرائم حرب مفزعة سقط آلاف المدنيين بين قتيل وجريح.
ومع الضوء الأخضر الذي أعطي غربيا بداية لبنيامين نتنياهو والمؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، ليس لبايدن ورفاقه الأوروبيين اليوم أن يطالبوا بهدنة إنسانية أو وقف لإطلاق النار أو دخول عاجل للمساعدات إلى القطاع أو بإعادة النظر في الهجوم البري الذي شرعت فيه القوات الإسرائيلية بالفعل.
هذا هو لسان حال حكومة تل أبيب التي تتصرف بانفرادية شبه تامة وتعلم مسبقا أن الحكومات الغربية لن تضغط عليها بجدية.
بل أن الانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل والصمت الأمريكي والأوروبي على جرائم الحرب المرتكبة منذ أسبوعها الأول والحصيلة المرعبة للقتلى من الأطفال والنساء والرجال، يفقد واشنطن وحلفاءها على الضفة الأخرى من المحيط الأطلنطي الفاعلية السياسية حين تأتي منهم تساؤلات هامة لا تملك إسرائيل إجابات عليها.
والتساؤلات المقصودة هنا تتعلق، من جهة، بالأوضاع الإنسانية في قطاع غزة ما أن تصعد إسرائيل من هجومها البري والمعاناة الرهيبة بسبب نقص الغذاء والدواء والوقود والانقطاع المتكرر للاتصالات وتداعيات كل ذلك على حياة وأمن أكثر من مليونين من الفلسطينيين يواصل جزء كبير منهم عمليات النزوح غير المنظمة داخل غزة من الشمال والوسط إلى الجنوب. كما أن تلك التساؤلات ترتبط، من جهة أخرى، بالوضع في القطاع بعد انتهاء الحرب ومع التفكير في مروحة تداعياتها المحتملة الواسعة من تحقيق إسرائيل لأهدافها المعلنة إلى فشلها في استئصال حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى وما بينهما من احتمالات كثيرة تتعلق بسلاح حماس والفصائل وقدرات الحكم والإدارة في غزة واحتياجات إعادة الإعمار بعد الدمار الشامل الذي يحدث الآن والضمانات الأمنية لما بعد الحرب والفرص الواقعية لإطلاق عملية سلام شاملة وأدواتها وغاياتها النهائية إن وفقا لحل الدولتين أو لحلول أخرى تستند إلى قيام كونفدرالية على أرض فلسطين التاريخية لها كيان إسرائيلي يهودي وكيان فلسطيني عربي.
الأخطر من رفض قطاعات واسعة من المواطنين الغربيين لسياسات حكوماتهم هو احتمالية صعود التيارات الراديكالية والعنيفة بين الأجيال الشابة من العرب الأمريكيين وبدرجة أكبر بين العرب الأوروبيين
كذلك يرتب الانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل والتكالب على زيارتها من قبل المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين خلال الأسابيع الماضية وتجاهل إظهار ولو قدر يسير من التعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت نير الاحتلال منذ عقود ولم يلتفت العالم لمعاناته طوال السنوات الماضية ويواجه اليوم النتائج الكارثية لحرب غزة 2023، يرتب ظهور عداء صريح لسياسات وممارسات الحكومات الغربية بين قطاعات واسعة من مواطنيها الذين يكررون التظاهر طلبا لوقف الحرب ولكف يد إسرائيل عن الفلسطينيين وتنديدا بغياب الإنسانية وازدواجية معايير حكوماتهم تجاه غزة حيث يكال بمكيالين تجاه الضحايا المدنيين، مكيال للإسرائيليين الذين سقطوا ضحايا في 7 أكتوبر / تشرين الأول ومكيال للضحايا الفلسطينيين الذين يتواصل سقوطهم منذ اليوم التالي لهجوم حماس. والأخطر من رفض قطاعات واسعة من المواطنين الغربيين لسياسات حكوماتهم هو احتمالية صعود التيارات الراديكالية والعنيفة بين الأجيال الشابة والوسيطة من العرب الأمريكيين وبدرجة أكبر بين العرب الأوروبيين وهو ما قد يفتح أبوابا كارثية لعودة الإرهاب إلى الغرب ولمزيد من التوترات للجاليات العربية في الغرب التي تواجه بالفعل اشتداد ساعد أحزاب وحركات اليمين المتطرف والشعبوي التي تريد إغلاق أبواب الهجرة واللجوء بل ويبحث بعضها عن طرد اللاجئين غير الشرعيين أو الذين ينتظرون البت في طلبات اللجوء الخاصة بهم.
على صعيد آخر، يرتب الانحياز الأعمى لإسرائيل من قبل الحكومات الغربية حالة من الرفض العالمي للمواقف الأمريكية والأوروبية، خاصة بين بلدان الجنوب التي تشعر شعوبها بمعاناة أهل غزة وبغطرسة التعامل مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال وإقامة الدولة على جزء من ترابه الوطني.
وفي رفض بلدان الجنوب للضوء الأخضر الغربي لإسرائيل وفي الاعتراض على ازدواجية المعايير تدعيم للتوجه الغالب بالانصراف إلى طلب نظام عالمي جديد به أقطاب أخرى كالصين وروسيا وتجمعات جديدة كبريكس تستطيع أن توازن الهيمنة الغربية وتفرض شيئا من العدالة وتنتصر للشعوب المهدرة حقوقها وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.
أخيرا، تأتي المواقف الغربية المنحازة ومن خلفها توترات مستمرة بين الغربيين وشعوب البلدان العربية والإسلامية التي تشعر بالسأم من ممارسات مستهجنة كحرق المصحف الشريف، ومن سياسات مرفوضة كالعنصرية في التعامل مع الجاليات العربية والإسلامية والتي اتضحت بجلاء مع مقابلة رفض وجودهم بالترحيب غير المشروط باللاجئين الأوكرانيين (على الأقل في بدايات الغزو الروسي لأوكرانيا). واليوم، ترتب ازدواجية المعايير الغربية التي ترى في غزو روسيا لأوكرانيا غزوا واحتلالا وتدينه بينما تصمت عن عقود الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة وتتبارى في دعم الحق الشرعي للمحتل في الدفاع عن نفسه وتتجاهل حق الشعب المحتلة أراضيه في المقاومة الشرعية للمحتل دون تبرير لقتل المدنيين المدان كجريمة حرب وفقا للقانون الدولي العام وتكيل بمكيالين فيما خص قتل المدنيين وفيما خص جرائم الحرب كالعقاب الجماعي للسكان وتجويعهم وحصارهم، ترتب هذه الازدواجية موجة عدائية كاسحة وخطيرة ضد الغرب في المجتمعات العربية والإسلامية. ومناط الخطورة على الغرب هنا هو تداعيات ذلك على دخول بلداننا مجددا في مواجهة فكرية وسياسية وشعبية «للمستضعفين» «والمهدرة حقوقهم» «والمعانين من ظلم الغرب» مع الولايات المتحدة وأوروبا، وهي المواجهة التي رتبت كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 وجرت علينا خرائب الحرب على الإرهاب وغزو أفغانستان والعراق وصرفت طاقات مجتمعاتنا عن أولويات التنمية المستدامة والتقدم وأضاعت علينا سنوات هامة كنا نستطيع توظيفها للحاق بركب عالم القرن الحادي والعشرين.