كانت غزّة كابوساً مزعجاً للإسرائيليين، وصارت بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) تهديداً وجودياً. شكّل هذا اليوم الاستثنائي صدمة في الوعي الإسرائيلي، وصار الخيار بعده: إمّا نحن وإمّا القطاع، وسيّان أكان ذلك بـ “حماس” أم بلا “حماس”.
هدف عملية “السيوف الحديد” التي يشنّها الجيش الإسرائيلي ردّاً على “طوفان الأقصى”، يعبّر عنه اسمها بوضوح لا لبس فيه: تقطيع القطاع واقتلاعه من الخريطة الفلسطينية بعد تسويته بالأرض والقضاء على فرص الحياة فيه. ولن يقف حائلاً دون هذه المهمة، لا قتل الأطفال والنساء، ولا تدمير المستشفيات ودور العبادة والمدارس، ولا مناشدات المؤسّسات الإنسانية، ولا صراخ التظاهرات في مدن العالم، ولا التحذيرات العربية والدولية ولا الرأي العامّ. يردّ الإسرائيليون: سنظلّ نقتل وندمّر ونستبيح المواثيق والشرائع، وليس على الناجين من الموت سوى الرحيل والهرب. كلّ الأرض والزرع والبحر والغاز والأسماك لنا، وما على الأحياء منكم سوى الانضمام إلى أهلهم الذين سبقوهم إلى الشتات عام 1948.
إفراغ القطاع ليس سرّاً
إفراغ القطاع من الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً ليس سرّاً من أسرار إسرائيل. فكرة تهجير من بقي منهم إلى الأردن ومصر وبلدان أخرى عمرها من عمر الكيان. تغيب مؤقّتاً ثمّ تعود أقوى عند كلّ منعطف فلسطيني أو معركة أو مشروع لشرق أوسط جديد. رئيس مجلس الأمن القومي السابق غيورا ايلاند اقترح “بديلاً إقليمياً لفكرة دولتين لشعبين”، تتنازل بموجبه مصر عن 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء للدولة الفلسطينية، على أن تحصل في المقابل على أرض بالمساحة نفسها في صحراء النقب المحتلّة. بعد سنوات قدّم الرئيس السابق للجامعة العبرية يوشع بن آريه مشروعاً مماثلاً أضاف إليه إنشاء ميناء بحري للفلسطينيين في العريش المصرية. كذلك فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في “صفقة القرن” التي أغرى بموجبها القاهرة بمميّزات اقتصادية مجدية. المشروع أُعيد إحياؤه مجدّداً في ظلّ “السيوف الحديد”، مع وعد لمصر بشطب ديونها. المشروع أُحبط في مهده. الردّ المصري كان حاسماً: التهجير خطّ أحمر، وغزّة للفلسطينيين وسيناء للمصريين، وكلّ ما عدا ذلك باطل وممنوع. كذلك كان للأردن خط أحمر مماثل في ما يتعلّق بالضفة الغربية.
إفراغ القطاع من الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً ليس سرّاً من أسرار إسرائيل. فكرة تهجير من بقي منهم إلى الأردن ومصر وبلدان أخرى عمرها من عمر الكيان
أداة الجزم المصرية والأردنية والـ “لا” الأميركية المشروطة لم تلجما التطرّف الإسرائيلي. أبرز رموزه كشفوا عن الخطة “ب”، أي الإبقاء على الترانسفير، لكن مع إضفاء ألوان زاهية عليه. أكثرهم وضوحاً هو أكثرهم تطرّفاً، أي بتسلئيل سموتريتش. فـ”روح الإنسانية” دبّت فيه فجأة إذ قال إنّ “الهجرة الطوعية واستيعاب عرب غزّة في دول العالم هما حلّ إنساني ينهي معاناة اليهود والعرب على حدّ سواء”. طبعاً اقتراحه أقلّ فجوراً من اقتراح زميله عميحاي الياهو الذي هدّد بإبادة غزّة بالقنبلة النووية. لكنّه أكثر خبثاً ولؤماً بعدما قدّمه بقالب “الرأفة” بأهل غزّة الذين يعانون بحسب قوله “من الفقر والعوز وقلّة الموارد”، وبوعد بتقديم مساعدات مالية سخيّة من المجتمع الدولي وإسرائيل نفسها (شكراً يا سموتريتش كم أنت سخيّ وكريم النفس!).
لم يأت اقتراح الوزير السمج من فراغ، إذ سبقته “مبادرة” من نواب في الكنيست من الائتلاف الحاكم والمعارضة تنصّ على صوغ خطة تسمح بترانسفير جماعي للّاجئين من قطاع غزّة إلى بلدان توافق على استقبالهم، وذلك من خلال آليّة منظّمة وبالتنسيق بين الدول. وسوّق النائبان داني دانون من حزب “الليكود” الحاكم ورام بن باراك من حزب “هناك مستقبل” لهذه الفكرة بمقال نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية اعتبرا فيه أنّ “هذه المبادرة هي فرصة لدول العالم للوقوف جنباً إلى جنب وإظهار التعاطف والالتزام بالحلّ المستدام الذي سيساعد على استقرار الشرق الأوسط”. ووصلت الوقاحة حدّ الطلب من كندا والدول الأوروبية مساعدة سكان غزّة الراغبين بالهجرة وتوفير الملاذ لهم، على غرار ما فعلوا مع اللاجئين من حروب يوغوسلافيا السابقة وسوريا وأفغانستان، وأن يتكفّل المجتمع الدولي بنفقات انتقالهم وإقامتهم.
الترانسفير الملوّن
في أيّ حال فإنّ عمليات التهجير القسري الإسرائيلي لسكان غزة مستمرّة بلا توقّف، ولا سيما من شمال القطاع إلى جنوبه، ولا تخفي وزارة الاستخبارات الإسرائيلية في وثيقة نشرتها الصحف في 13 تشرين الأول توصيتها باحتلال القطاع وتهجير سكانه على ثلاث مراحل، ذلك أنّ احتلال القطاع وفرض وصاية عليه أيّاً كان شكلها، لا يوفّران للدولة العبرية الردع والحماية المطلوبين. وتقترح الوزارة الترويج لحملة مخصّصة للفلسطينيين في غزّة من شأنها “تحفيزهم على الموافقة على الخطة، وجعلهم يتخلّون عن أراضيهم”، على أن تتمحور الرسائل حول خسارة الأرض، أي توضيح أنّه لم يعد هناك أمل في العودة إلى الأراضي التي ستحتلّها إسرائيل في المستقبل القريب، سواء كان ذلك صحيحاً أم لا.
إقرأ أيضاً: كي لا تضيع دماء غزّة في بحر الدموع
من ترانسفير أسود إلى ترانسفير ملوّن، لم تتعلّم إسرائيل بعد 75 عاماً من الاحتلال أنّ الحلول الأمنيّة لا تؤدّي إلا إلى نتائج عكسية. النكبة الأولى لم تدجّن الفلسطينيين وجعلتهم ثورة، القبضة الحديد في الضفّة فجّرت انتفاضتين متتاليتين، حصار غزّة فجّر حروباً كشفت هشاشة “الكيان الترسانة” وأخلّت بتوازنه، وما يجري اليوم في مستشفى الشفاء يعبّىء خزّانات الغضب في صدور الأطفال والأجنّة. بعد 40 يوماً من الحرب ترسم “غيرنيكا” جديدة في غزّة. وفيما يتحدّث قادتها عن تهجير جديد للفلسطينيين، ترتفع أرقام عدّاد الهجرة العكسية في أوساط شبابها لتبلغ في أسابيع قليلة حدود 300 ألف تركوا خلفهم كياناً قلقاً على المستقبل والمصير، ذلك أنّ اللعب بالنار يحرق في الاتجاهين.