ضمن المواكبة اليومية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا بدّ من إبقاء النظر شاخصاً إلى ما يجري بين الولايات المتحدة الأميركية وطهران، لا سيما أنّ التواصل قائم والقنوات الخلفية تستمرّ بالعمل في سبيل الوصول إلى قواسم مشتركة. لم ينقطع التواصل يوماً بين واشنطن وطهران منذ بداية عملية طوفان الأقصى، لا بل تبيّن مدى عمقه وصلابته، خصوصاً مع تبرئة الأميركيين سريعاً من أيّ مسؤولية إيرانية عن العملية. في ضوء مراقبة الطرفين، برز موقف للرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يأخذ حقّه في الإعلام حين قال حرفياً إنّ “إيران أسقطت طائرة مسيّرة أميركية قديمة، وكان خلفها طائرة تجسّس أميركية ضخمة تحمل تقريباً 39 مهندساً وطيّاراً، لكنّها لم تعترضها”. وتابع: “قلت حسناً، هذا أمر مثير للاهتمام! علينا الردّ عليهم! وتمّ الردّ عليهم وقمنا بتخريب بعض الرادارات، وبعدها قتلنا سليماني”.
وتابع ترامب: “لقد كان عليهم أن يردّوا لحفظ ماء وجههم وهذا أمر طبيعي. ثمّ أبلغونا أنّه سيتمّ إطلاق 18 صاروخاً على قاعدة أميركية في العراق، لكنّها لن تستهدفها مباشرة، بل ستستهدف فقط محيط القاعدة”. وأوضح ترامب أنّ أيّ جندي أميركي لم يُصب بأذى في القصف، مضيفاً أنّه “الشخص الوحيد الذي لم يكن متنرفزاً” إثر هذا القصف بسبب علمه “بنوايا إيران”. وقال إنّه يعلن هذه القصّة للمرّة الأولى من أجل “إثبات احترام أميركا”.
تكرّر شيء من هذا القبيل كثيراً بين طهران وواشنطن، منذ ولايتَي باراك أوباما، ولا يزال قائماً ومستمرّاً إلى اليوم، وهو ما يصلح توصيفه بقواعد اشتباك واضحة بين الطرفين من شأنها أن تجنّبهما الانخراط في أيّ حرب. وهو ما لا يزال سارياً بوضوح منذ عملية طوفان الأقصى، وسط معلومات تتحدّث عن تطوّر مستوى المفاوضات من غير مباشرة إلى مباشرة بين الجانبين. يأتي ذلك في ظلّ مشاركة بعض حلفاء إيران في تنفيذ ضربات داعمة معنوياً للمقاومة الفلسطينية لكن بدون الذهاب إلى حرب واسعة، وأبرز من يوضح هذا المسار هو أداء الحزب في لبنان، ربطاً بالمواقف التي يعلنها الأمين العام السيد حسن نصر الله.
يؤكّد الإيرانيون أنّ الأميركيين ليست لديهم أيّ مصلحة لتصعيد الوضع في المنطقة، فيما الإسرائيليون محرجون في آلية الردّ
اللقاءات الأميركيّة الإيرانيّة لم تنقطع
بحسب ما تشير مصادر دبلوماسية متابعة فإنّ اللقاءات الإيرانية الأميركية قد استؤنفت في الفترة الأخيرة، وصولاً إلى مفاوضات مباشرة بين الطرفين، هدفها الوصول إلى وقف إطلاق النار في غزّة، واستكمال المفاوضات التي جرت بينهما. والأهمّ من ذلك كلّه أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تريد لهذا الصراع في غزّة أن يتوسّع في المنطقة، وهو أيضاً ما تلتزم به طهران والحزب. في ضوء هذه المفاوضات، جاء الاتصال الهاتفي بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، وقد كان أوستن واضحاً في عدم إقدام إسرائيل على أيّ تهوّر في الردّ على الحزب، ومنع حصول تصعيد على الجبهة اللبنانية. حصل الاتصال ليل السبت، فيما عمل الحزب على تصعيد عملياته العسكرية ضدّ الإسرائيليين يوم الأحد، وهو ما أدّى إلى تحقيق إصابات مباشرة وسقوط قتلى إسرائيليين، وشهد الأحد أطول فترة مواجهات واشتباكات. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الاتصال الأميركي قد فعل فعله في تنفيس الاحتقان الإسرائيلي ومنع الردّ بقوّة على الحزب بشكل قد يؤدّي إلى توسيع إطار الصراع.
مرّت أيام على تلك الضربة النوعية التي وجّهها الحزب بدون ردّ إسرائيلي فعليّ، وعلى الرغم من حديث وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت عن أنّ الطائرات الحربية جاهزة لشنّ ضربة واسعة ضدّ أهداف للحزب في لبنان، إلا أنّ ذلك لم يحدث، بفعل الفرملة الأميركية. بناء عليه وضع الإسرائيليون ردّ الحزب في خانة الردّ على تجاوزات الجيش الإسرائيلي لقواعد الإشتباك، وتمّت العودة إلى القواعد السابقة بعدها. هذا الأمر لا يمكن أن ينفصل عن مضمون زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكستين للبنان وإبلاغ المسؤولين رسالة واضحة بضرورة منع تفاقم الصراع والدخول في الحرب. لا يمكن أن تنفصل زيارة هوكستين عن القنوات العاملة بين واشنطن وطهران.
بحسب ما تشير مصادر دبلوماسية متابعة فإنّ اللقاءات الإيرانية الأميركية قد استؤنفت في الفترة الأخيرة، وصولاً إلى مفاوضات مباشرة بين الطرفين، هدفها الوصول إلى وقف إطلاق النار في غزّة
هذا ما تريده إيران
يحصل ذلك فيما تستمرّ العملية العسكرية البرّية الإسرائيلية في قطاع غزّة، علماً أنّها لا تزال متعثّرة في تحقيق أيّ هدف عسكري حقيقي أو من شأنه أن يغيّر المعادلة أو يسمح بوقف القتال. وهذا يقود إلى معادلة واضحة، وهي أنّ الهدف الفلسطيني تحقّق يوم 7 تشرين الأول من خلال كسر إسرائيل وإلحاق الهزيمة بها وإعادة إحياء القضية الفلسطينية ووضعها على الطاولة. بينما الهدف الإسرائيلي غير المعروف حتى الآن لم يتحقّق، فيما هناك مواقف معلنة تتّصل بسحق حماس وإخراجها من غزّة وإطلاق سراح الرهائن. ولكنّ ذلك غير قابل للتحقّق، إذ لا قدرة لدى الإسرائيليين على تحقيق ما يريدونه عسكرياً، لا سيما لجهة الإفراج عن الرهائن بالقوة، ولذلك هم يراهنون على المفاوضات.
من بين ما تتركّز عليه المفاوضات الإيرانية الأميركية تحرير مبلغ 10 مليارات دولار جديدة لإيران، إذ لم يتمّ تمديد فترة العقوبات المتعلّقة بتجميدها، وهذه بحدّ ذاتها مؤشّر إلى أسباب تجنّب إيران التصعيد والانخراط الأوسع في الصراع أوّلاً، والمشاركة في القمّة العربية والإسلامية ثانياً، والموافقة على البيان الختامي لهذه القمّة ثالثاً بتصريح عبد اللهيان بعد عودته إلى طهران.
إقرأ أيضاً: طهران تساير القمّة… بانتظار الميدان والحوار مع الرياض؟
يؤكّد الإيرانيون أنّ الأميركيين ليست لديهم أيّ مصلحة لتصعيد الوضع في المنطقة، فيما الإسرائيليون محرجون في آلية الردّ، خصوصاً بعد الضربات التي نفّذها الحزب يوم الأحد. ويعتمد الحزب طرقاً مختلفة في الردّ، خصوصاً بتفعيل عملية استخدام المسيّرات. كما أنّ الحزب عسكرياً ينوي اكتشاف مدى الردّ الإسرائيلي وقدراته. في كلّ ما يجري، هناك تشابه بين مسار الحرب على غزّة وما جرى في سوريا أميركياً مع انخراط إيران العسكري الواسع في مواجهة الثورة، إذ لم يشأ الأميركيون التصدّي لإيران بل تسليمها الملفّ السوري في سبيل الوصول إلى الاتفاق النووي عام 2015. الآن تبدو الآية معكوسة، إذ إنّ إيران تنكفئ عن التدخّل الجدّي الواسع، نزولاً عند الضغوط الأميركية، في سبيل الوصول إلى اتفاق. فيما السؤال الأساسي الذي يُطرح يتعلّق بما إذا كان سيتمّ الاستفراد بحماس والتضحية بها، في مقابل تحسين طهران لشروط أخرى ومكاسب متعدّدة في المنطقة بناء على الاتفاق مع الأميركيين.