في الوقت الراهن، ما تزال الولايات المتحدة في موقع قوي لمواجهة كل من الصين وروسيا.
والأهم من ذلك أن أداء الاقتصاد الأميركي جيد، والاستثمار التجاري في منشآت التصنيع الجديدة التي تلقى بعضها الدعم من برامج البنية التحتية والتقنية الحكومية الجديدة، يشهد ازدهاراً.
كما أن الاستثمارات الجديدة التي قدمتها الحكومة والشركات في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والروبوتات، والهندسة الحيوية، تعد بتوسيع الفجوة التقنية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وكل دولة أخرى لسنوات قادمة.
* * *
تواجه الولايات المتحدة الآن تهديدًا أكبر لأمنها مما واجهته في عقود -وربما في أي وقت آخر على الإطلاق.
لم يحدث أبدًا أن واجهت أربعة أعداء متحالفين في وقت واحد -روسيا، والصين، وكوريا الشمالية، وإيران- والذين يمكن أن تعادل ترسانتهم النووية مجتمعين في غضون بضع سنوات ضعفي حجم ترسانتها النووية الخاصة.
ولم يحدث منذ الحرب الكورية أن اضطرت الولايات المتحدة إلى التعامل مع منافسين عسكريين أقوياء يتوزعون في أوروبا وآسيا.
ولا يتذكر أي من الأحياء اليوم وقتًا كانت فيه لأحد خصومها القوى الاقتصادية والعلمية والتقنية والعسكرية نفسها التي تمتلكها الصين اليوم.
ومع ذلك، فإن المشكلة هي أنه عندما تقع حوادث تتطلب استجابة قوية ومتساوقة من الولايات المتحدة، فإنها لا تأتي برد الفعل المتوقع.
لم تنجح قيادتها السياسية المنقسمة في البيت الأبيض والكونغرس بين الجمهوريين والديمقراطيين في إقناع ما يكفي من الأميركيين بأن التطورات الجارية في الصين وروسيا مهمة.
كما فشل القادة السياسيون في شرح كيفية ترابط التهديدات التي يشكلها هذا البلدان.
وفشلوا أيضًا في وضع استراتيجية طويلة الأمد تضمن أن يكون النصر حليف الولايات المتحدة -ومعها القيم الديمقراطية التي تمثلها بشكل أعم.
ثمة قواسم مشتركة وتشابهات كثيرة بين الرئيسين؛ الصيني شي جين بنغ، والروسي فلاديمير بوتين.
لكنّ نوعين من القناعات المشتركة يبرزان بشكل خاص. بالنسبة لبوتين، ثمة قناعة لديه بأن مصيره الشخصي يتعلق باستعادة الأيام المجيدة التي عاشتها بلاده في حقبة الماضي الإمبراطوري.
أما بالنسبة لشي، فإنه يعني استعادة مكانة المهيمِن التي تمتعت بها الصين الإمبريالية في آسيا في يوم من الأيام، بينما تنطوي في الوقت نفسه على طموحات أكبر تتعلق بحصة الصين من النفوذ العالمي.
بالنسبة لبوتين، يعني تحقيق الأمر نفسه السعي إلى مزيج غريب من إحياء الإمبراطورية الروسية واستعادة الاحترام الذي حظي به الاتحاد السوفياتي.
ثانياً، أن الزعيمين مقتنعان بأن الديمقراطيات المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قد تجاوزت نقطة الذروة ودخلت في مرحلة الأفول الذي لا رجعة منه.
ويرى الزعيمان أن هذا التراجع يتجسد بوضوح في تزايد الانعزالية، والاستقطاب السياسي، والفوضى الداخلية التي تشهدها هذه الديمقراطيات.
وإذا نظرنا إلى قناعات شي وبوتين مجتمعة، فإنها تشكل نذيرًا بقدوم فترة خطرة ستواجهها الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة.
ولا تقتصر المشكلة على القوة العسكرية والعدوانية التي تتمتع بها الصين وروسيا فحسب، بل تتعلق أيضاً بكون الزعيمين قد ارتكبا مُسبقًا أخطاء جسيمة في حساباتهما وتقديراتهما في الداخل والخارج، ويبدو من المرجح أن يرتكبا أخطاء أكبر في المستقبل.
وربما تجلب عليهما قراراتهما عواقب كارثية بالإضافة إلى الولايات المتحدة. ولذلك، يجب على واشنطن تغيير حسابات الرئيسين، وتقليل فرص قدوم الكارثة. ويتطلب هذا الجهد رؤية استراتيجية وعملاً جريئاً.
وكانت الولايات المتحدة قد انتصرت في “الحرب الباردة” بفضل استراتيجية متساوقة التزم بها كلا الحزبين طوال تسع ولايات رئاسية متتالية.
وتحتاج الولايات المتحدة اليوم إلى نهج مماثل من الحزبين. وهنا تكمن الصعوبة.
(امتدت الحرب الباردة في الفترة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي، وغطت معظم النصف الثاني من القرن العشرين).
بذلك تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف بالغ الخطورة، حيث تواجه خصوماً عدوانيين ميالين إلى ارتكاب الأخطاء في الحسابات، لكنها غير قادرة على حشد الوحدة والقوة الضروريتين لردعهم.
وسوف يعتمد النجاح في ردع قادة مثل شي وبوتين على ضمان احترام الالتزامات وثبات الاستجابة.
ومع ذلك، جعل الخلل الوظيفي القوة الأميركية متقلبة وغير موثوقة بطريقة أغرت القادة المستبدين الميالين إلى المجازفة بوضع رهانات خطرة تنطوي على الكثير من الاحتمالات الكارثية.
طموحات شي
تهدف دعوة شي إلى “التجديد العظيم للأمة الصينية” إلى تحول الصين لتكون القوة العالمية المهيمنة بحلول العام 2049، الذي يشهد الذكرى المئوية لانتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية.
ويتضمن هذا الهدف إعادة إخضاع تايوان خلسيطرة بكين. وقال شي: “يجب أن يتحقق التوحيد الكامل للوطن الأم، وسوف يتحقق”.
ولتحقيق هذا الهدف، أصدر تعليماته إلى المؤسسة العسكرية الصينية بأن تكون جاهزة بحلول العام 2027 لغزو ناجح لتايوان.
كما تعهد بتحديث المؤسسة العسكرية الصينية بحلول العام 2035 وتحويلها إلى قوة “بمستوى عالمي”.
ويبدو أن شي يعتقد بأن نجاحه في تأمين مكانة مثل التي حققها ماو تسي تونغ، المؤسس التاريخي للحزب الشيوعي الصيني في القرن العشرين، ليكون ضمن الشخصيات الأسطورية في الحزب الشيوعي الصيني، لن يتحقق إلا بالاستيلاء على تايوان.
تنطوي تطلعات شي وإيمانه بأن هناك مصيراً عظيماً ينتظره على خطر كبير بشن حرب. وكما ارتكب بوتين خطأ جسيمًا وكارثيا في حساباته بشأن أوكرانيا، هناك خطر كبير من أن يفعل شي الشيء نفسه في تايوان.
وكان قد أخطأ في تقديراته بشكل كبير ثلاث مرات مُسبقًا على الأقل. أولاً، بمخالفته فلسفة الزعيم الصيني دينغ خسياو بينغ، القائمة على مبدأ: “أخف قوتك، وانتظر الوقت المناسب”.
وقد أثار شي بالتحديد ردود الفعل التي كان دينغ يخشاها، حيث سخّرت الولايات المتحدة قوتها الاقتصادية لإبطاء نموالصين، وشرعت في تعزيز جيشها وتحديثه، وعززت تحالفاتها وشراكاتها العسكرية في آسيا.
وكان الخطأ الكبير الثاني في الحسابات هو اتجاه شي إلى اعتماد سياسات اقتصادية يسارية، وهو ما شكل تحولاً أيديولوجياً بدأ في العام 2015 ورسخه المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني في العام 2022.
وقد ألحقت سياساته، من إدخال الحزب في إدارة الشركات إلى الاعتماد المتزايد على الشركات المملوكة للدولة، ضرراً بليغاً بالاقتصاد الصيني.
وكان الخطأ الثالث هو أن سياسة “صفر كوفيد” التي انتهجها شي، كما كتب المتخصص في الشأن الاقتصادي، آدم بوسن، على صفحات “فورين أفيرز”، “جعلت السلطة التعسفية التي يمارسها الحزب الشيوعي الصيني على الأنشطة التجارية للناس، واضحة وملموسة، بما في ذلك أنشطة أصغر الجهات الفاعلة”.
وقد أدى ذلك إلى حالة من عدم اليقين، والتي تفاقمت بسبب تراجعه المفاجئ عن تلك السياسة، مما تسبب في خفض الإنفاق الاستهلاكي الصيني وألحق مزيداً من الأضرار بكامل الاقتصاد الصيني.
إذا كان الحفاظ على قوة الحزب يحتل قمة أولويات الرئيس شي، فإن استعادة تايوان تأتي في المرتبة الثانية من الأهمية.
وإذا اختارت الصين الاعتماد على تدابير لا ترقى إلى مستوى الحرب من أجل الضغط على تايوان وحملها على الاستسلام قبل نشوب صراع، فإن هذه الجهود ستفشل على الأرجح.
وبذلك، سوف يُترك شي أمام خيار المجازفة بشن الحرب من خلال فرض حصار بحري واسع النطاق على تايوان -وربما القيام بغزو شامل للاستيلاء على الجزيرة.
وقد يتصور شي أنه سيحقق المكانة التي يصبوا إليها ببذل المحاولة. ولكن، سواء كسب الحرب أو خسرها، فإن الكلفة الاقتصادية والعسكرية المترتبة على شن حرب على تايوان ستكون كارثية على الصين، بالإضافة إلى الأطراف المعنية الأخرى كلها. وسوف يرتكب الرئيس بذلك خطأً فادحاً.
مع ذلك، وعلى الرغم من الحسابات الخاطئة للرئيس الصيني والصعوبات الداخلية العديدة التي تواجهها بلاده، تظل الصين تشكل تحدياً هائلاً للولايات المتحدة.
فجيشها الآن أقوى من أي وقت مضى. وهي تمتلك الآن سفناً حربية أكثر من الولايات المتحدة، ولو أنها أقل جودة.
كما أجرت تحديثاً وإعادة هيكلة لقواتها التقليدية والنووية، وهي على وشك مضاعفة قواتها النووية الاستراتيجية العاملة.
وقد طورت نظامها الخاص للقيادة والتحكم. وهي بصدد تعزيز قدراتها في الفضاء الخارجي والفضاء السيبراني على حد سواء.
بالإضافة إلى قدراتها العسكرية، اتخذت الصين استراتيجية شاملة تهدف إلى تعظيم نفوذها على الساحة العالمية.
وهي الآن أكبر شريك تجاري لأكثر من 120 دولة، بما فيها جميع دول أميركا اللاتينية تقريباً. وقد انضمت أكثر من 140 دولة إلى “مبادرة الحزام والطريق”، البرنامج الصيني الضخم لتطوير البنى التحتية.
وتمتلك الصين الآن، أو تدير، أو تستثمر في أكثر من 100 ميناء في نحو 60 دولة.
وبالإضافة إلى ذلك، أسست الصين شبكة دعائية وإعلامية شاملة لتعزيز هذه العلاقات الاقتصادية المتوسعة.
ولا يكاد يوجد بلد على الكوكب لا يصله بث محطة إذاعية أو قناة تلفزيونية أو موقع إخباري صيني واحد على الأقل.
ومن خلال هذه المنافذ وغيرها، تهاجم بكين الإجراءات والدوافع الأميركية، وتعمل على تقوض الثقة بالمؤسسات الدولية التي أسستها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتنشر المزاعم عن تفوق نموذج التنمية والحكم الذي تتبعه بكين، كما تروج فكرة انحدار الغرب وأفوله.
قوة عظمى مختلة وظيفيا
ثمة مفهومان على الأقل يستند إليهما أولئك الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة والصين متجهتان نحو الصراع. الأول هو “فخ ثوسيديديس”.
ووفقاً لهذه النظرية، تصبح الحرب حتمية عندما تنشأ مواجهة بين قوة صاعدة وقوة راسخة، كما حدث في المواجهة بين أثينا وإسبرطة في العصور القديمة، أو عندما واجهت ألمانيا المملكة المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى.
أما النظرية الثانية فتتمثل في “ذروة الصين”. وهي فكرة تقوم على أن القوة الاقتصادية والعسكرية للبلد وصلت إلى أوج قوتها -أو أنها ستكون هناك في وقت قريب، في حين أن المبادرات الطموحة لتعزيز الجيش الأميركي تتطلب سنوات حتى تطرح الثمار.
ولذلك، ربما تقوم بكين بغزو تايوان قبل أن يتغير التفاوت العسكري في آسيا بطريقة لا تناسب الصين ولا تخدم مصلحتها.
لكنّ أيا من النظريتين لا تبدو مقنعة. لم يكن هناك ما هو حتميّ في الحرب العالمية الأولى، وإنما اندلعت بسبب حماقة زعماء أوروبا وغطرستهم.
وليس الجيش الصيني جاهزاً على الإطلاق لخوض صراع كبير. ولذلك، لن يقع أي هجوم صيني مباشر أو غزو لتايوان، إذا حدث أصلًا، قبل بضع سنوات قادمة، ما لم يخطئ الرئيس الصيني في حساباته مرة أخرى وبشكل خطير.
رهان بوتين
وفق ما يراه عالم السياسة والمستشار السابق للأمن القومي الأميركي، زبيغنيو بريجنسكي، فإنه “من دون أوكرانيا لن تكون روسيا إمبراطورية”.
ومن المؤكد أن بوتين يشاركه هذا الرأي. ففي إطار سعيه إلى استعادة الإمبراطورية الروسية المفقودة، قام بغزو أوكرانيا في العام 2014، ثم مرة أخرى في العام 2022. وسرعان ما تبين أن المغامرة الأخيرة كانت خطأ كارثيا في الحسابات، والذي ستكون له تداعيات مدمرة لبلده على المدى الطويل.
وبدلاً من تقسيم حلف الناتو وإضعافه، قدمت تصرفات روسيا للحلف هدفاً جديداً، (وأصبحت فنلندا عضواً جديداً قوياً في الحلف، وسوف تنضم السويد في القريب).
وعلى المستوى الاستراتيجي، أصبحت روسيا الآن في وضع أضعف بكثير مما كانت عليه قبل الغزو.
على المستوى الاقتصادي، عملت مبيعات النفط الروسي للصين والهند ودول أخرى على تخفيف قسم كبير من التأثير المالي للعقوبات.
وفي الوقت نفسه، حلت السلع الاستهلاكية والتقنيات القادمة من الصين وتركيا ودول أخرى في آسيا الوسطى والشرق الأوسط محل تلك التي كان يتم استيرادها في السابق من الغرب.
ومع ذلك، ما تزال روسيا تخضع لعقوبات استثنائية فرضتها عليها كل الديمقراطيات المتقدمة تقريباً.
وفي الواقع، قامت الكثير من الشركات الغربية بسحب استثماراتها وغادرت البلاد، بما فيها شركات النفط والغاز التي تبقى تقنياتها ضرورية للحفاظ على مصدر الدخل الروسي الرئيسي.
وبالإضافة إلى ذلك، فرّ الآلاف من خبراء التكنولوجيا ورجال الأعمال الرواد. بغزوه أوكرانيا، قامر بوتين بمستقبل بلاده في هذا الرهان.
على الرغم من أن الحرب في أوكرانيا أدت إلى تدهور القوات التقليدية للجيش الروسي إلى حد كبير، فإن موسكو تحتفظ بأكبر ترسانة نووية في العالم.
وبفضل اتفاقيات الحد من التسلح، لا تضم هذه الترسانة سوى عدد قليل من الأسلحة النووية الاستراتيجية المنتشرة أكثر من نظيرتها لدى الولايات المتحدة.
لكنّ روسيا تمتلك نحو 1.900 من الأسلحة النووية التكتيكية، وهو ما يعادل عشرة أضعاف ما لدى الولايات المتحدة من هذه الأسلحة.
ولكن، على الرغم من هذه الترسانة النووية الضخمة، تبدو التوقعات قاتمة بالنسبة لبوتين. فمع تبدد آماله في إنجاز غزو سريع لأوكرانيا، يبدو أنه أصبح يعتمد الآن على جمود عسكري يهدف إلى استنزاف وإجهاد الأوكرانيين.
ويراهن على أن يسأم الناس في أوروبا والولايات المتحدة بحلول الربيع أو الصيف المقب من دعم الأوكرانيين.
وكبديل مؤقت لأوكرانيا مهزومة ومحتلة، ربما يكون مستعدا لقبول أوكرانيا مشلولة؛ دولة عاجزة يخيّم عليها الخراب، وتعاني من انخفاض في صادراتها وتقلُّص المساعدات التي تأتيها من الخارج بشكل كبير.
وقد أراد بوتين أن تكون أوكرانيا جزءاً من الإمبراطورية الروسية المستعادة، وخشي من أن تصبح أوكرانيا ديمقراطية، حديثة ومزدهرة نموذجاً بديلاً للروس في الجوار. ولن يتمكن من تحقيق هدفه الأول، لكنه قد يكون قادرًا على منع حدوث ما خاف منه طويلاً.
طالما ظل بوتين في السلطة، ستظل روسيا خصماً للولايات المتحدة والناتو. وهو يعمل، من خلال مبيعات الأسلحة، والمساعدة الأمنية، وأسعار النفط والغاز المخفضة، على تكوين علاقات جديدة في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
وسوف يواصل استخدام كل الوسائل الممكنة لزراعة الانقسام في الولايات المتحدة وأوروبا، وتقويض النفوذ الأميركي في الجنوب العالمي.
وبفضل التمكين الذي يستمده من شراكته مع شي، وثقته بأن ترسانته النووية الهائلة ستردع أي عمل عسكري ضد بلده، سوف يستمر بوتين في تحدي الولايات المتحدة ومناصبتها العداء.
وقد سبق له وأن ارتكب خطأً تاريخياً في الحسابات، ولا يستطيع أحد أن يضمن أنه لن يرتكب خطأ جديداً.
أميركا ضعيفة
في الوقت الراهن، ما تزال الولايات المتحدة في موقع قوي لمواجهة كل من الصين وروسيا. والأهم من ذلك أن أداء الاقتصاد الأميركي جيد، والاستثمار التجاري في منشآت التصنيع الجديدة التي تلقى بعضها الدعم من برامج البنية التحتية والتقنية الحكومية الجديدة، يشهد ازدهاراً.
كما أن الاستثمارات الجديدة التي قدمتها الحكومة والشركات في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والروبوتات، والهندسة الحيوية، تعد بتوسيع الفجوة التقنية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وكل دولة أخرى لسنوات قادمة.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، قدمت الحرب في أوكرانيا للولايات المتحدة فرصاً جديدة. فقد أعاد التحذير المبكر الذي أصدرته واشنطن لأصدقائها وحلفائها بشأن نية روسيا غزو أوكرانيا، ثقتهم في القدرات الاستخباراتية الأميركية.
وأتاحت المخاوف المتجددة من روسيا للولايات المتحدة تعزيز حلف شمال الأطلسي وتوسيعه. كما شكلت المساعدات العسكرية التي قدمتها لأوكرانيا دليلاً واضحاً على أنه يمكن الوثوق بها عندما يتعلق الأمر بالوفاء بالتزاماتها.
وفي الوقت نفسه، أدى التنمر الاقتصادي والدبلوماسي الذي تمارسه الصين في آسيا وأوروبا إلى نتائج عكسية، مما مكن الولايات المتحدة من تعزيز علاقاتها في المنطقتين.
وعلى الصعيد العسكري، تلقى الجيش الأميركي تمويلاً مناسباً في السنوات الأخيرة. ويجري تنفيذ برامج للتحديث لجميع أسس ثالوث الردع النووي: الصواريخ الباليستية العابرة للقارات؛ وقاذفات القنابل؛ والغواصات.
وتشتري وزارة الدفاع الأميركية طائرات مقاتلة جديدة (أف-35، وأف-15 محدثة، ومقاتلات جديدة من الجيل السادس)، إلى جانب أسطول حديث من طائرات التزويد بالوقود في الجو.
وبالمقابل، يؤمن الجيش نحو 20 منصة ويطور أسلحة جديدة، وتقوم قوات البحرية ببناء سفن وغواصات إضافية.
ويواصل الجيش تطوير أنواع جديدة من الأسلحة، مثل الذخائر الأسرع من الصوت، ويعزز قدراته السيبرانية الهجومية والدفاعية.
وفي المجموع، تنفق الولايات المتحدة على الدفاع أكثر مما تنفقه كل البلدان العشرة الأكثر إنفاقاً التي تليها في القائمة، بما فيها روسيا والصين.
مع ذلك، من المؤسف أن الخلل السياسي في الولايات المتحدة وإخفاقاتها في السياسة الخارجية يعرقلان نجاحها.
وفي الحقيقة، يتعرض الاقتصاد الأميركي للتهديد بسبب الإسراف في الإنفاق الحكومي الفيدرالي بلا أي ضوابط.
وقد فشل الساسة من كلا الحزبين في معالجة الكلفة المتزايدة لمستحقات الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، والمساعدات الطبية، على سبيل المثال لا الحصر.
كما تسببت المعارضة المستمرة لرفع سقف الدَّين في تقويض الثقة بالاقتصاد، مما دفع المستثمرين إلى القلق بشأن ما قد يحدث إذا تخلفت واشنطن عن سداد ديونها فعلياً (في آب (أغسطس) 2023، خفضت وكالة “فيتش” التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
وهو ما أدى إلى رفع كلفة الاقتراض على الحكومة). وبقيت عملية تخصيص الاعتمادات في الكونغرس معطلة لسنوات.
كما فشل المشرعون مراراً وتكراراً في سن مشاريع قوانين الاعتمادات المالية الفردية، وأقروا قوانين “شاملة” لم يقرأها أحد، وفرضوا توقف بعض وظائف الحكومة.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، أدى الازدراء الذي عامل به الرئيس السابق، دونالد ترامب، حلفاء الولايات المتحدة، وولعه بالقادة الدكتاتوريين، واستعداده لزرع الشكوك حول التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وسلوكه المضطرب بشكل عام، إلى تقويض صدقية الولايات المتحدة واحترامها في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، بعد مرور سبعة أشهر فحسب على تنصيب إدارة الرئيس جو بايدن، أدى انسحاب الولايات المتحدة المفاجئ والكارثي من أفغانستان إلى المزيد من الإضرار بثقة بقية العالم بواشنطن.