مَن كان يتصور أن تكون “القيادة المركزية الأمريكية” مستخدماً دؤوباً لـمنصة “إكس”، أو “تويتر” سابقاً؟ ومَن كان يتصور أن تقدم الحكومة الأمريكية الكثير من التفاصيل المفيدة في تغريداتها؟ ولكن ذلك حصل في الثالث من كانون الأول/ديسمبر. فبعد عدة ساعات من التقارير المبهمة التي جعلت الناس يتساءلون: “ما الذي يحدث فعلاً في البحر الأحمر؟” قدمت «القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط» (CENTCOM) شرحاً مفصلاً.
واستُهلّت التغريدة بالآتي: “وقعت اليوم أربع هجمات على ثلاث سفن تجارية مختلفة كانت تُبحر في المياه الدولية جنوب البحر الأحمر، وهذه السفن الثلاث مرتبطة بـ 14 دولة مختلفة”. (لم يتم ذكر الواقع بأن مالك السفينة ربما يكون مختلفاً عن جنسية مَن استأجرها، ومَن قام بالتأمين عليها، ومِن أين تذهب الشحنة، ومِن أين يأتي الطاقم). وقد استجابت المدمّرة “يو إس إس كارني” من فئة “آرلي بيرك” لنداءات الاستغاثة التي أطلقتها السفن وأسْدت العَوْن”.
مَن يقرأ ذلك يتهيأ له أن أحدهم صرخ “استعد للعمل!” لأن التغريدة تروي أيضاً كيف رصدت المدمرة «كارني» هجوماً صاروخياً مضاداً للسفن شُنّ من منطقة الحوثيين في اليمن واستهدف السفينة التجارية «يونيتي إكسبلورر» “وطال محيطها”. وبعد أقل من ثلاث ساعات، أسقطت المدمرة «كارني» طائرة بدون طيار أُطلقت باتجاهها من اليمن، وبعد 35 دقيقة أخرى أبلغت سفينة «يونيتي إكسبلورر» عن قصفها بصاروخ. وفي إطار مساندة السفينة التجارية، أسقطت «كارني» طائرة بدون طيار أخرى.
لم يمضِ ثلاث ساعات على هذا الهجوم حتى أصيبت سفينة تجارية أخرى – تحمل الإسم “رقم 9” – بصاروخ، وبعد مرور ساعة، أرسلت السفينة “صوفي 2” نداء استغاثة بعد إصابتها. وفي معرض التعامل مع كل هذا، أسقطت مدمرة “كارني” طائرة بدون طيار أخرى.
وجاء كل ذلك في أعقاب هجوم شُنّ في المنطقة نفسها الشهر الماضي، عندما تم الاستيلاء على سفينة بعد أن هبطت مروحية يمنية على متنها وخرج منها جنود مسلحون. وتم في الواقع إيقاف الهجوم على سفينة أخرى عندما احتمى الطاقم في غرفة آمنة، وأُلقي القبض على المهاجمين الذين يُفترض أنهم قراصنة صوماليون.
ولكن كل ذلك هو مجرد تفاصيل (وتسلية أيضاً). فالتفسير البسيط للأحداث هو أن نظام الحوثيين في اليمن يهاجم السفن التي ترتبط بشكل ما بالإسرائيليين – حتى لو كانت مُلكيتها جزئية – احتجاجاً على العمليات التي تقوم بها إسرائيل في غزة في محاولة لضمان إطلاق سراح الرهائن الذين احتجزتهم حركة “حماس” الإرهابية في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وأصبح من الصعب أكثر فأكثر عدم الاستنتاج أن التي تتحكم في أعمال الحوثيين – و”حزب الله” في لبنان والهجمات على القوات الأمريكية في سوريا والعراق أيضاً – هي إيران.
بصرف النظر عن الضغط الذي تمارسه أعمال الحوثيين على إسرائيل، فهي تعدّ تحدياً مباشراً للولايات المتحدة. ويشكّل الحوثيون مجموعة عرقية تعيش في شمال اليمن، وهم من أتباع أحد المذاهب الشيعية، ووصلوا إلى السلطة بسبب الانقسامات في الحكومات السابقة في العاصمة صنعاء، وهم لا يسيطرون على البلاد بأكملها ولكنهم أسياد المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان. وقد فشلت الجهود التي بذلتها كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لهزيمتهم، مما أدى إلى إحراج هاتين الدولتين الأكثر ثراءً وجيوشهما المجهزان تجهيزاً جيداً. وتساعد واشنطن في التوسط في اتفاق سلام، ولكنه يصطدم بالتفاصيل، ويعقّد الحوثيون الأمور إما بتشجيع من إيران أو دون تشجيعها.
وبالنسبة لواشنطن، تعدّ هذه المهمة مثيرة للغضب. فقد تمكنت مجموعة من رجال القبائل المسلحين بالبنادق، والمزودين ببعض الصواريخ التي قدمتها إيران، من التغلب على قوة الجيش الأمريكي وتعريض طريق عبور بحري رئيسي للخطر. ويقع باب المندب مباشرة إلى الجهة الجنوبية من عرض البحر الذي وقعت فيه الهجمات الأخيرة. وهو الممر الذي يبلغ عرضه 29كيلومتراً بين شبه الجزيرة العربية وأفريقيا ويمر عبره الكثير من سفن الشحن الدولية، من بينها تلك التي تنقل كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي. وبذلك تبين أن القوة العسكرية الأمريكية أضعف مما يعتقده دافعو الضرائب – خاصة أنه تم نشر ما لا يقل عن مجموعتين من حاملات الطائرات الضاربة في المنطقة، إحداها في شرق البحر الأبيض المتوسط والأخرى في الخليج العربي.
ومن التطورات الدبلوماسية المثيرة للاهتمام أن واشنطن لا تقدم الدعم الكامل لاستراتيجية إسرائيل الحالية بسبب القلق بشأن التكاليف الإنسانية الناجمة عن تجدد القتال بعد انهيار وقف إطلاق النار في الأسبوع الماضي. فتوقع إسرائيل بأن الأمر سيستغرق أشهراً لهزيمة “حماس” يؤدي إلى ارتعاد أوصال المسؤولين الأمريكيين. وفي هذا الإطار، قالت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس خلال كلمتها التي ألقتها في “مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين للمناخ” المنعقد في دبي إنه يتعين على إسرائيل بذل المزيد من الجهد لحماية المدنيين. ومن المحتمل أن يؤدي أي إجراء أمريكي كبير ضد الحوثيين إلى انهيار عملية السلام في اليمن التي تحاول واشنطن تيسيرها.
لعله توقيت الجولة التالية من أعمال العنف في منطقة باب المندب مرهون ببساطة بطهران وما إذا كانت ستدفع الحوثيين إلى القيام بالمزيد من الاستفزازات، وهو ما يبدو أكثر احتمالاً في الوقت الحالي من قيام الولايات المتحدة باتخاذ إجراء حاسم.