في موازاة رصدها لتفاصيل العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة وحربه لاستئصال عناصر ومقاتلي “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس”، ترصد إيران كل تفاصيل تحركات الإدارة الأميركية، بخاصة القوات الأميركية على مساحة انتشارها البري والبحري في منطقة الشرق الأوسط، ليس فقط ما يتعلق بالقطع البحرية، بل أيضاً أعداد الجنود وطبيعة وظيفتهم وتدريبهم والآليات التي يستخدمونها في القواعد المنتشرة على مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية.
لم يكن وصول حاملتي الطائرات الأميركية “أيزنهاور” و”فورد” ومعهما الغواصة “أوهايو” الأكثر تجهيزاً وتكنولوجيا في الترسانة الأميركية إلى مياه البحر الأحمر واستقرارها قبالة سواحل غزة وقرب ميناء أسدود الإسرائيلي مجرد إجراء ميداني يهدف إلى تقديم الدعم النفسي والعسكري للقيادة الإسرائيلية بعد الصدمة التي أحدثها هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بل تقرأه على أنه التهديد الأكثر جدية للعمق الإيراني.
وبدا كذلك رسالة أميركية واضحة بإمكان استخدام هذه الترسانة في حال ذهبت طهران إلى خيار توسيع دائرة النار نحو الإقليم واستغلال الإرباك الإسرائيلي وحال عدم التوازن التي أصيبت بها الآلة العسكرية لتل أبيب، خصوصاً أن قطع الأسطولين السادس ومقره في إيطاليا والخامس المنتشر في مياه الخليج وقاعدته في البحرين ستضاف حتماً إلى هذه القوة، فضلاً عن القوات البحرية والغواصات التي سبق أن أرسلتها واشنطن في الصيف الماضي إلى مياه البحر الأحمر لتأمين الملاحة فيه ومنع البحرية الإيرانية من استهداف السفن في هذا الشريان الحيوي للاقتصاد العالمي.
انتقال حاملة الطائرات “أيزنهاور” إلى مياه الخليج شكل مصدر ارتياح للقيادة الإيرانية التي تعتقد وضمن عقيدتها العسكرية بأن احتمالات المواجهة المباشرة أو إمكان لجوء واشنطن إلى عمل عسكري ضد أهداف إيرانية تراجع نسبياً نتيجة الإجراء الذي اتخذته الأخيرة بتحريك حاملة طائراتها إلى داخل الخليج والمرور من مضيق هرمز مع جميع القطع المرافقة لها والذي يضعها في دائرة الاستهداف الإيراني المباشر.
وتحاول طهران التعامل مع تصاعد الوجود العسكري البري والبحري والجوي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط بنوع من الهدوء، وإعادة تأكيد استراتيجيتها الساعية إلى دفع الإدارة الأميركية لاتخاذ قرار بسحب قواتها وإخلاء قواعدها من منطقة غرب آسيا مع ترك هامش كبير لهذا الانسحاب، لأن ما يعني طهران مباشرة هو الوجود العسكري الأميركي في المحيط الحيوي الإيراني، تحديداً في العراق وسوريا.
من هنا يمكن التوقف عند المواقف التي أعاد قائد حرس الثورة الإسلامية حسين سلامي الحديث عنها بقوله “اليوم أميركا وفي مناطق عدة تقوم بجمع حقائبها” محاولاً حصر الدوافع لذلك بالأسباب الداخلية الأميركية ومستبعداً العوامل والمستجدات الدولية التي تدخل في إطار “الأمن القومي الأميركي”، بخاصة ما يتعلق بالاستقرار الإسرائيلي وأمن طرق التجارة العالمية وأمن الطاقة.
سلامي يعتبر أيضاً أن “دافع الضرائب الأميركي يشاهد كيف تصرف حكومته الأموال على حروب خاسرة في سوريا والعراق وأفغانستان بدلاً من أن تخصصها لحل الأزمات الداخلية”.
وانطلاقاً من هذه القراءة، وحال الثقة، أو ما يمكن تسميته حال “فائض الثقة” أو بالأحرى “فائض القوة” الذي تعيش فيه إيران وقيادتها العسكرية عبّر عنها سلامي بوصف بلاده بأنها “تعتبر اليوم قوة كبيرة في العالم، ولا يوجد أحد يتجرأ أو يتجاسر على شعبها وأراضيها”.
وهذه القراءة تجعلها، أي إيران، تنظر إلى الحراك الأميركي والحشود العسكرية التي يقوم بها في منطقة غرب آسيا على أنها جزء من جهود واشنطن لإعادة ترميم مصادر ردعها وقوتها بعد ما تعرضت له قوة الردع الإسرائيلية من اهتزاز وإرباك نتيجة عملية “حماس”، لذا فهي غير راغبة أو بحسب تعبير المؤسسة العسكرية الإيرانية، غير قادرة على الدخول في مغامرة عسكرية جديدة، هذه المرة مع طهران مباشرة أو مع المحور الذي تقوده في الإقليم.
الخطوة الأميركية بتشكيل تحالف بحري لحماية الخطوط البحرية والتجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، تحاول طهران التعامل معه بنوع من الفرصة لاستعراض عضلاتها العسكرية في محاولة لتأكيد استراتيجيتها الإقليمية والدور الذي من المفترض أن تقوم به وتعترف به القوى الكبرى وفي مقدمتها واشنطن للمساعدة في توفير الأمن الاقتصادي للممرات الاستراتيجية في المنطقة وأعالي البحار.
من هنا جاء إعلان قائد القوات البحرية في حرس الثورة علي رضا تنغسيري عن تشكيل تعبئة “باسيج” بحري من 55 ألف عنصر يستخدمون نحو 33 ألف زورق سريع، ستكون دائرة مهمتهم حماية الدور الإيراني في مياه الخليج، وصولاً إلى البحر الأحمر وباب المندب، ودعم القوات البحرية الرسمية.
وإذا ما كانت القيادة العسكرية تعتبر أن إعلان مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي عن تشكيل تحالف في البحر الأحمر وخليج عدن للدفاع عن المصالح القومية الأميركية، لا يشكل مصدر تهديد لمصالحها الاستراتيجية وأنه لا يشكل انتقالاً أو تحولاً استراتيجياً في الوجود الأميركي، فإنه تعتبره إعطاء مهمة جديدة لتحالف قديم سبق أن أعلن عنه عام 2002 باسم “القوات البحرية المشتركة” لتعزيز الأمن والاستقرار في ممرات الشحن العالمية، حيث إن فرقة العمل 153 CTF ستتولى المهمة التنفيذية لهذا التحالف بغية توفير الأمن في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن.
ولعل وصف كيربي الحصار البحري الذي تحاول ميليشيات الحوثي اليمنية فرضه على السفن التجارية المتوجهة من ميناء إيلات وإليه ومن ورائه على الاقتصاد الإسرائيلي بأنه تهديد للأمن القومي الأميركي، وفي ظل الدعم غير المشروط والمفتوح الذي تقدمه واشنطن سياسياً وعسكرياً واقتصادياً لحكومة بنيامين نتنياهو، يفرضان على هذه الإدارة أن تذهب إلى المبادرة واتخاذ خطوة متقدمة للحفاظ على أمن الممرات البحرية التي تشكل أحد الشرايين الرئيسة لاستقرار الاقتصاد الإسرائيلي، فضلاً عن ضرورة هذه الخطوة لإعادة تأكيد قوة الردع والسيطرة الأميركية باعتبار قيادتها العالمية.
وإذا ما كانت واشنطن مجبرة على إعادة تأكيد قوتها وسيطرتها، فإنها في المقابل، لا ترغب في أن تسهم أي خطوة قد تلجأ إليها في تحويل ما يجري في قطاع غزة إلى حرب إقليمية أو شاملة تنقل الوضع إلى مستوى تحاول عدم بلوغه، لذلك، وبحسب اعتقاد جهات مقربة من مراكز القرار الإيراني، من المرجح أن تعمد واشنطن إلى توجيه ضربات مدروسة لبعض المواقع في مناطق نفوذ ميليشيات الحوثي في اليمن وأن تبقى هذه العلميات محدودة التأثير من دون أن تدفع الحوثيين إلى التخلي عن سياسة استهداف السفن الإسرائيلية، لذا تضمن عدم توسيع رقعة التوتر، بحيث لا تشكل هذه العمليات إحراجاً للجانب الإيراني الذي سيلتزم السقف الذي التزمه مع معركة غزة المستمرة لأكثر من 75 يوماً والتحذير الدائم بعدم تخطي الخطوط الحمراء وعدم جر المنطقة إلى حرب مفتوحة، بخاصة أن الجانب الإيراني تمسك خلال الشهرين الماضيين بمقولة إنه لا يتدخل في قرارات حلفائه سواء في اليمن أو العراق والعمليات التي تنفذها فصائل موالية لإيران ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا، وحتى في العمليات العسكرية التي يقوم بها “حزب الله” على طول الحدود الجنوبية اللبنانية.