كانت البداية مع زلزال السادس من شباط الذي دمر مناطق واسعة من شمال وغرب سوريا، امتداداً للمناطق المجاورة في جنوب شرق تركيا، وتسبب في مقتل عشرات الألوف وجرح أعداد غير معروفة في البلدين، وتشريد آلاف العائلات عن بيوتهم ومناطق سكناهم. في حين استبشر نظام بشار الأسد في الزلزال نفسه خيراً حين بادرت دول عربية لاستغلال فرصة الكارثة بالانفتاح عليه من بوابة المساعدات الإغاثية، كما جمدت الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه في إطار قانون قيصر. ونشطت الحركة الدبلوماسية في اتجاه دمشق، بمناسبة المأساة، فتم إنضاج ما سمي بالمبادرة العربية لحل «الأزمة» السورية، عبر مجموعة لقاءات على مستوى وزراء خارجية عدد من الدول العربية، وصولاً إلى إعادة مقعد النظام في الجامعة العربية، بعد طرده منه لـ12 عاماً، تمهيداً لمشاركة رأس النظام في القمة العربية التي انعقدت في مدينة جدة السعودية منتصف شهر أيار.
تعامل النظام في الأشهر التي تلت قمة جدة مع المبادرة العربية بالطريقة نفسها التي لا يجيد غيرها، وفقاً لمبدأ «وافقهم على كل شيء، ولا تفعل أي شيء» آملاً في أن يمل العرب من مطالبته بتنفيذ شروطهم، ويقدموا له انفتاحاً سياسياً ومساعدات اقتصادية بلا مقابل. الحق أن «ورقة عمان» التي تبنتها الجامعة العربية تضمنت شروطاً يصعب على النظام الاستجابة لها من غير أن يفقد الكثير من منظور تمسكه بالسلطة، إضافة إلى شرط ينطوي على التخلص من الوجود الإيراني في سوريا هو عاجز عن تحقيقه حتى لو أراد ذلك. أما التوقف عن تصدير المخدرات إلى الأردن ودول الخليج فهو يعني فقدان مصدر مهم للتمويل يقدر بمليارات الدولارات، وورقة ابتزاز للدول العربية لا يمكنه الاستغناء عنها. والحال أن الرائز الأساس للأردن ودول الخليج في الانفتاح على النظام إنما هو وقف تدفق الكبتاغون من سوريا، بعدما بات هاجساً يمس الأمن القومي للدول المذكورة، كما أن ازدياد الضغوط العربية على النظام للالتزام بما تعهد به من شروط «الورقة» أدى إلى إضافة السلاح إلى المخدرات في «سلة التهريب» الذي استمر النظام فيه كورقة ضغط مقابلة على تلك الدول.
كانت أوضاع الناس الاقتصادية والمعاشية تتدهور إلى مستويات مخيفة، والعملة السورية تسقط سقوطاً حراً بما يؤدي إلى تفاقم التضخم وعجز شرائح اجتماعية تزداد اتساعاً عن شراء أبسط مستلزمات الحد الأدنى للحياة
في غضون ذلك كانت أوضاع الناس الاقتصادية والمعاشية تتدهور إلى مستويات مخيفة، والعملة السورية تسقط سقوطاً حراً بما يؤدي إلى تفاقم التضخم وعجز شرائح اجتماعية تزداد اتساعاً عن شراء أبسط مستلزمات الحد الأدنى للحياة. تضافر ذلك مع انسداد الأفق وفقدان الأمل، بعدما اكتشف الناس أن الانفتاح العربي على النظام لم ولن يؤدي إلى أي تحسن ملموس في حياتهم بسبب تعنت النظام في الاستجابة لشروط ذلك الانفتاح، فأديا معاً إلى تململ في أوساط موالية للنظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بين تموز وآب، مع توجيه النقد إلى رأس النظام بالذات في تلك الأوساط، ثم اندلاع انتفاضة السويداء المستمرة إلى اليوم بعدما قطعت كل خطوط الرجعة وطالبت بإسقاط النظام وطردت شبيحته وأغلقت مقار حزب البعث في عدد من مدن المحافظة.
من جهة أخرى اندلع صراع مسلح بين قوات سوريا الديمقراطية ومقاتلي عشائر في ريف محافظة دير الزور على خلفية إطاحة «القوات» برئيس المجلس العسكري لدير الزور الذي سبق وعينته بنفسها، ليمتد إلى أرياف محافظتي الحسكة وريف حلب بما أنذر باشتعال صراع عربي كردي، خمد بعد فترة لكنه لم ينطفئ تماماً. واستغل النظام والميليشيات الإيرانية تلك الفوضى لتحقيق مكاسب ميدانية في المناطق المعنية.
وفي الأول من شهر تشرين الثاني وقع هجوم على الأكاديمية العسكرية أثناء احتفال يقام سنوياً بتخريج دفعة من الضباط، وقع ضحيته نحو مئة شخص بين عسكريين ومدنيين، وزعم النظام أن الهجوم حدث بطائرات مسيّرة انطلقت من مناطق «خفض التصعيد» في محافظة إدلب وجوارها، ليشن حملة قصف مستمرة إلى الآن أوقعت مئات القتلى من السكان.
وفي السادس من الشهر نفسه وقع هجوم انتحاري على مبنى وزارة الداخلية في أنقرة، اتهمت الحكومة التركية بتنفيذه الوحدات الكردية في سوريا، فبدأت حملة عسكرية جوية استهدفت بصورة خاصة منشآت حيوية كمحطات توليد الكهرباء وتكرير النفط ومحطات الوقود، ولم تتوقف هذه الحملة أيضاً إلى اليوم.
وفي السابع من الشهر نفسه شنت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس هجوماً نوعياً على المنطقة المتاخمة لقطاع غزة، قتلت فيه نحو 1500 بين عسكريين ومدنيين، واختطفت نحو 240 أسيراً مدنيين وعسكريين بينهم ضباط. وتطلب الأمر ثلاثة أيام ليتمكن الجيش الإسرائيلي من إعادة سيطرته على «غلاف غزة» وإنهاء تواجد المقاتلين الفلسطينيين هناك. في حين أطلقت إسرائيل آلتها الحربية، وبخاصة القصف من الجو، منذ اليوم الأول وما زالت حربها الوحشية مستمرة إلى اليوم، بعدما اقترب عدد القتلى الفلسطينيين من أحد عشر ألفاً نسبة كبيرة منهم أطفال ونساء، وكلهم تقريباً من المدنيين.
في هذه الأجواء اتجهت الأنظار بداهةً نحو «محور الممانعة» بقيادة إيران، وبخاصة إلى ذراعها في لبنان حزب الله. لكن التهديدات الأمريكية المباشرة من خلال حشد القوة البحرية قرب شواطئ شرق المتوسط، والتحذيرات المتكررة، جعل إيران وحزب الله ينأيان بنفسيهما عن الحرب، مكتفيين برشقات محسوبة إلى المناطق الحدودية القريبة من لبنان وسوريا. واكتفت إسرائيل بالرد واحدة بواحدة، متجنبة توسيع نطاق الحرب بما يتسق مع الموقف الأمريكي. لكنها واصلت هجماتها على الأهداف الإيرانية داخل سوريا، بما في ذلك قصف مطاري دمشق وحلب مرتين، وقتل منسق الميليشيات الإيرانية في سوريا قبل يومين. يضاف إلى ذلك هجمات محسوبة على أهداف أمريكية على الأراضي السورية في الشمال الشرقية، من قبل ميليشيات تابعة لإيران، لم توقع قتلى إلى اليوم.
في غضون ذلك غاب الأسد عن وسائل الإعلام منذ شهر أيلول، في الوقت الذي تجري فيه صراعات عديدة على الأراضي السورية، وتستمر الانتفاضة المدنية في السويداء، وانتهت المبادرة العربية بصورة نهائية.
مجموع هذه المعطيات يعطينا صورة مأساوية عن سوريا في 2024، ولا يمكن التكهن بتغيرات محتملة ستتوقف على كيفية انتهاء الصراعات المستمرة في سوريا وجوارها، وبخاصة في غزة.