منذ تسلم “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية”، التكتل الأكبر الموالي لإيران، مقاليد السلطة في العراق، تتصاعد التساؤلات في شأن السيناريوهات اللاحقة، وما إذا كانت تلك القوى ستعمل على ترسيخ وجودها في السلطة لأمد طويل، من خلال استغلال موارد الدولة الاقتصادية والسياسية، فضلاً عن تضخم سطوة الجماعات المسلحة الموالية لها على حساب مؤسسات الدولة.
وعلى رغم حالة الهدوء السياسي الذي تعيشه البلاد منذ نحو عام، فإن المخاوف من احتمالية سطوة شاملة لحلفاء إيران في العراق ما تزال قائمة، مع غياب الأطراف الداخلية المناوئة للنفوذ الإيراني عن المشهد، وتماهي واشنطن إلى حد ما، مع حكومة محمد شياع السوداني.
توقيت مثالي
ويرى مراقبون أن محاولات حلفاء إيران إدامة فترة حكمهم، تأتي في “التوقيت الأمثل” مع استمرار عزلة “التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر عن المشهد السياسي للبلاد وخلو الساحة السياسية الشيعية من أي معارضة، فضلاً عن غياب الحركات الاحتجاجية بعد انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 التي تمت مواجهتها بعنف شديد. وإضافة إلى تلك العوامل، يبدو أن قوى “الإطار التنسيقي” تستغل حالة التفاهم “الإيراني – الأميركي” على الساحة العراقية لتدعيم نفوذها، إذ يشير مراقبون إلى أنه على رغم عمليات القصف المتبادلة بين جماعات مسلحة موالية لإيران والقوات الأميركية في البلاد، فإنها لم تؤثر بشكل ملحوظ في سياسة البيت الأبيض إزاء حكومة السوداني حتى الآن.
وتأتي احتمالات سيطرة حلفاء طهران على الدولة العراقية مدفوعة بالتغييرات الكبيرة التي أجرتها تلك الأطراف على مؤسسات الدولة وتحديداً الأمنية منها، فضلاً عن سيطرتها خلال الانتخابات المحلية، التي غاب عنها التيار الصدري، على معظم مجالس المحافظات في المدن الشيعية، إضافة إلى وصول حلفاء أكراد وسنة إلى عدد آخر من مجالس المحافظات الأخرى.
ولا يبدو الوضع مختلفاً بالنسبة إلى الاقتصاد، إذ أجرت الحكومة الحالية سلسلة تغييرات في المناصب الاقتصادية العليا لعل أبرزها منصب رئيس البنك المركزي العراقي، فضلاً عن سيطرة “الإطار التنسيقي” على وزارات النفط والمالية في الحكومة الحالية.
ونشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تقريراً قال فيه إن “انقلاب الميليشيات المدعومة من إيران لم يتحقق عبر فوهة البندقية، بل عبر سلسلة تحركات هادئة ومنسقة من الحرس الثوري الإيراني”.
وتابع التقرير أن ما عزز سيطرة حلفاء إيران هو “القضاة الذين يتم إعدادهم من قبل إيران والذين تسيطر عليهم الميليشيات”.
في حين يشير معهد واشنطن إلى أن “حكومة المقاومة” تمكنت من “اكتساح كامل قواعد السلطة في العراق”، من خلال “سيطرتها المفاجئة وغير المسبوقة على مكتب رئيس الوزراء ومن ثم على الأجهزة الأمنية والوكالات الحكومية إضافة إلى السلطة القضائية والبرلمان”.
انتهاء معادلة “التنافس والشراكة”
في السياق، رأى الباحث الأكاديمي عقيل عباس، أن ما يقوم به حلفاء إيران في العراق يمثل “استحواذاً تدريجاً على السلطة ومن ثم الشروع نحو السيطرة على الدولة”، مبيناً أن “الأدوار الهامشية التي انتهت إليها الأطراف السياسية السنية والكردية تسهل تلك المهمة على قوى الإطار التنسيقي”. وأضاف أن بنية ما يسمى بـ”الديمقراطية التوافقية” مكنت تلك الأطراف من محاولة السيطرة على “القسم الشيعي من الدولة” ومن ثم الشروع بـ”الاستحواذ الكامل” على مفاصل السلطة.
ويبدو أن “انتهاء معادلة الشراكة والتنافس” بين أطراف القوى السياسية السنية والكردية والشيعية، وفق ما عبر عباس، دفع باتجاه وجود “فاعل شيعي أساسي بات يفرض إرادته على الأطراف الأخرى”.
ولعل ما جرى خلال السنوات الماضية من تمكين الأطراف الشيعية من القرار السياسي للبلاد، سيسهل عليها “عملية السيطرة على الدولة”، بحسب عباس الذي لفت إلى أن ما يحفز ذلك هو “تغير أولويات واشنطن في العراق، التي باتت تركز فقط على ألا تكون البلاد مرتعاً أو منطلقاً للإرهاب”.
ويشير إلى أن واشنطن “لم تعد مستعدة للخوض في إعادة صياغة السياسة في البلاد، على رغم اهتمامها بألا يكون العراق تابعاً لإيران بشكل تام، إلا أنها لا تضع هذا الأمر كهدف أساس”.
وتواجه رغبة حلفاء طهران في الاستحواذ على السلطة بشكل تام خيارات عدة، إذ بين الباحث أن تلك القوى “ستصطدم بوقائع الاقتصاد خلال السنوات القليلة المقبلة”، وهو الأمر الذي سيعرقل مساعيها إلى السيطرة على البلاد. ورأى عباس أن “افتقار حلفاء إيران الرؤية الاقتصادية والمالية سيعني حتمية ذهاب البلاد نحو انهيارات اقتصادية ومالية”، مردفاً أن ما يجري في السياق الاقتصادي هو “استثمار أسعار النفط المرتفعة في الوقت الحالي وتوظيفها لدفع الرواتب، التي لا تستطيع الميزانية في الأوضاع الاعتيادية تحملها”.
ولعل الجانب الآخر الذي يأتي أيضاً مدفوعاً بالإشكالات الاقتصادية يتمثل باحتمالية تصاعد “السخط الشعبي والاحتجاجات”، إذ يعتقد عباس أن هذا الأمر ربما “يحفز التيار الصدري على تقديم نفسه بديلاً للإطار التنسيقي ضمن ترتيبات مختلفة”، مبيناً أنه “إذا كان التيار الصدري يمتلك استراتيجية ذكية فيجب عليه مغادرة العملية السياسية بشكل تام ومن ثم العودة في ظرف آخر مرتبط بانهيار النخبة السياسية الحالية”.
واعتبر أن خطوة انسحاب التيار الصدري من البرلمان بأنها “حركة ذكية جداً”، مرجحاً وجود استراتيجية لدى قادة التيار بهذا الخصوص مع رؤيتهم أن النظام الحالي “لا يمكن أن يستمر”.
“الإطار التنسيقي” والتعددية السياسية
وتنفي قوى “الإطار التنسيقي” بشكل متكرر الحديث عن كونها تحاول ترسيخ سلطتها بشكل يتجاوز المسارات الديمقراطية في البلاد، وتشير إلى أنها تدعم “السياق التوافقي في إدارة الدولة”.
في المقابل، يقول عضو “الإطار التنسيقي” عباس العرداوي إن “الإطار مشكل من قوى وطنية متعددة ومتنوعة الرؤية السياسية والاجتماعية”، مبيناً أنها “مختلفة في طبيعة تركيبتها، ومنها قوة مسلحة سابقاً وقوى إسلامية مخضرمة، فضلاً عن وجود قوى مدنية ناشئة أيضاً”. ويضيف لـ”اندبندنت عربية” أن “لا صحة للقول بأن قوى (الإطار التنسيقي) تعمل على ترسيخ حكم حلفاء إيران أو تعكس سياساتها”.
ويتابع أن الاستراتيجية التي يتحرك “الإطار التنسيقي” وفقها تتمثل في “امتلاك رؤية واضحة لإدارة الدولة من خلال إشراك الجميع وترسيخ الديمقراطية في البلاد”.
ثلاث عقبات أمام سيطرة طهران
ويبدو أن طهران لا تزال تعمل على تثبيت وجود حلفائها في السلطة لفترة طويلة، خصوصاً أن تحركاتها خلال العام الحالي شكلت “منطلقاً لكسر القواعد السياسية القائمة خلال السنوات الماضية”، بحسب رئيس المركز “العراقي – الأسترالي” للدراسات أحمد الياسري، الذي اعتبر أن صانعي القرار في إيران “تمكنوا من تحييد حراك الجماعات المناوئة لهم، ابتداءً من التيار الصدري وصولاً إلى حركات الاحتجاج”. وأضاف أن “هذا النسق مكن طهران من إحكام السيطرة على أدوات السلطة في البلاد”، لكن تلك السيطرة ستبقى “معرضة للانهيار في أي لحظة”.
وحدد الياسري ثلاث عقبات تقف في طريق “إعلان السيطرة الإيرانية التامة على البلاد”، الأولى تتمثل في “إمكانية أن تتحرك واشنطن من جديد لإعادة تثبيت وجودها كشريك رئيس في صناعة السياسة في البلاد”.
أما المسار الآخر فيرتبط بـ”تأثير التيار الصدري الذي لا يزال فاعلاً على رغم انكفائه عن الأجواء السياسية”، مبيناً أن “الصدر إضافة إلى المرجعية الدينية في النجف يمثلان حجر العثرة الأكبر أمام إحكام سيطرة حلفاء إيران بشكل مستقر على الدولة العراقية”.
وتمثل “حالة التنظيم الكبيرة لدى أعداء إيران الأيديولوجيين الذين يمثلهم المجتمع السني في العراق”، المسار الثالث الذي يقف في طريق تحول البلاد نحو “سطوة إيرانية تامة”، إذ لفت الياسري إلى أن “الحراك السياسي السني بات منظماً وتحول خلال السنوات الماضية من دعم الجماعات الإسلامية إلى حالة من الانتماءات المدنية الاجتماعية مقابل الانقسام الكردي والتراجع الشيعي نحو الأحادية الإيرانية”.
ولعل ما يدفع إلى الاعتقاد بأن طهران تحاول خلال الفترة الحالية “تثبيت الأحادية الإيرانية في العراق”، بحسب الياسري، هو التوجه نحو “طرح فكرة الخدمات والإعمار في استقطاب العراقيين”، مبيناً أن هذا الأمر سيصطدم بشكل أو بآخر بـ”الإشكالات الاقتصادية التي يمكن أن تتطور في البلاد مع غياب رؤية حلفاء إيران في إدارة هذا الملف”.