هل فات الأوان على منظومة السلطة والدولة العميقة في إيران أن تبادر إلى خطوات تصحيحية تعيد التوازن لعلاقاتها مع دولة روسيا الاتحادية، وأن تدرك أن ما تصفه بعلاقات أو تحالف إستراتيجي بين طهران وموسكو ليس سوى رغبة من طرف واحد، وأن كل محاولات المسؤولين الإيرانيين الذين يمسكون بالقرار الإستراتيجي الإيراني فشلت في دفع القيادة الروسية لتكون حليفة إستراتيجية لهم في لعبتهم مع المجتمع الدولي؟
تساؤل دفعت به إلى الواجهة جملة من المواقف الروسية في التعامل مع القضايا والمسائل التي يعتبرها النظام الإيراني بمثابة مسلمات لا نقاش ولا محل للتنازل فيها، بخاصة على المستوى الذي يدخل في مجال الأمن القومي والسيادة الإيرانية. وقد جاء التوقيع الروسي على بيان اللجنة العربية – الروسية للتعاون الذي انعقد في مدينة مراكش المغربية قبل أكثر من أسبوع، وما تضمنه من دعوة إيران إلى حل خلافاتها مع دولة الإمارات العربية المتحدة حول أزمة الجزر الثلاث، أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى، من طريق الحوار الثنائي أو العودة لمحكمة العدل الدولية، ليشكل ما يمكن وصفه بالصدمة أو الصفعة للقيادة الإيرانية التي باتت مجبرة على إعادة تقويم علاقاتها مع الحليف الروسي الذي لا يأخذ في الاعتبار عينه السيادة الإيرانية ومصالحها.
الصدمة الإيرانية تأتي نتيجة إصرار موسكو على سياستها وعدم تغيير موقفها الذي سبق أن اتخذته قبل أشهر في البيان المشترك لاجتماع مجموعة التعاون الروسي – الخليجي الذي عقد في موسكو في الـ 10 من يوليو (تموز) 2023 بمشاركة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظرائه وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، والذي أكد ضرورة عودة إيران لطاولة التفاوض مع الإمارات حول الجزر بصورة مباشرة أو عبر محكمة العدل الدولية، والذي دفع طهران حينها إلى الاعتراض والاحتجاج على هذا الموقف، والاكتفاء بالتفسير الذي قدمه لافروف من التزام روسيا بالسيادة الإيرانية.
ردود الفعل الإيرانية على الموقف الروسي لم تقتصر هذه المرة على تيار سياسي معارض للمسار الذي اتخذته السياسة الخارجية الإيرانية، وفي مقدمها وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، بل اتسعت هذه المرة لتشمل دوائر داخل التيار المحافظ أو قوى النظام ومقربين من المرشد الأعلى، وفي مقدمهم كبير مستشاري المرشد وزير الخارجية الأسبق علي أكبر ولايتي، وذهبت هذه المواقف إلى حدّ توصيف السياسة الروسية تجاه إيران بالسياسة الخادعة التي تحمل إشارات على خيانة متعمدة لإيران في كثير من القضايا الإستراتيجية، أو التي تمس الأمن القومي والسيادة والمصالح القومية للنظام.
ولعل الإشارة التي صدرت في افتتاحية صحيفة “كيهان” المقربة من المرشد والناطقة باسم النظام قبل نحو شهر، والتي حملت عتباً إيرانياً من موقف موسكو تجاه ما يجري في غزة، وأن من حق الفلسطينيين و”حماس” تحديداً أن يحصلوا على دعمها في مقابل الخدمة التي قدمتها حرب غزة للقيادة الروسية وساعدتها في تحسين شروطها في مواجهة الضغوط الأميركية والغربية في حربها على أوكرانيا.
هذه المؤشرات التي تحمل ملامح خيبة إيرانية من المواقف الروسية لم تشفع لها الابتسامات والحفاوة التي استقبل بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في السابع من ديسمبر (كانون الأول) الحالي بعد يوم واحد على زيارة سريعة قام بها بوتين إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتي سبقت اجتماع مراكش لوزراء خارجية روسيا والدول العربية، وهي ابتسامات وصفها عضو رئيس لجنة الأمن القومي البرلماني السابق حشمت الله فلاحت بيشته بأنها ابتسامات خادعة يجب على إيران أن تحذر من نتائجها، طالما أن روسيا لا تفعل ولا تنفذ سوى السياسات التي تخدم مصالحها.
رد الفعل الذي صدرت عن الأوساط المحافظة، سواء الرسمية أو البرلمانية أو الإعلامية، جاء ليعزز موقف القوى المعارضة لسياسة الانحياز التام الذي تمارسه حكومة رئيسي ومعها الدولة العميقة على المعسكر الشرقي، وهذا الموقف لا يقتصر على العلاقة مع موسكو بل ينسحب أيضاً على عملاق المصالح الخاصة الذي يمثله الصيني الذي سبق أن وجّه الضربة نفسها للإيراني في موضوع الجزر والأزمة مع أبوظبي أيضاً.
وإذا ما كانت طهران والنظام الإيراني على يقين بأن أزمة الجزر مع دولة الإمارات محكومة بالوصول إلى حل، وتسعى إلى أن يكون من خلال الحوار المباشر الثنائي وترفض الدخول في متاهات محكمة العدل الدولية، فإن الضربة التي تلقتها من الحليف الروسي قد تسهم في تعزيز موقف الرأي الداخلي الإيراني المطالب بالعودة لسياسة التوازن وتقديم المصالح القومية في أية علاقة مع أي طرف دولي، ووقف الاستنزاف وتحويل إيران إلى ورقة على طاولة أي تفاوض دولي من قبل الحلفاء والخصوم على حد سواء.
ومن بوابة المصالح القومية يبدو أن ذاكرة التيار المحافظ بدأت تستعيد المواقف الروسية التي اتخذتها موسكو خلال الأعوام الأخيرة، والدور السلبي الذي لعبته في مفاوضات النووي أو الحرب الأوكرانية عندما عطلت الاتفاق الذي كان في مرمى يد طهران أواخر عهد الرئيس السابق حسن روحاني وبداية الحرب الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو، واشترطت استثناء العلاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وإيران من أية عقوبات، ومن ثم توريط إيران في هذه الحرب من خلال الكشف عن تلقيها دعماً عسكرياً ومسيّرات انتحارية “شاهد- 136” من إيران، والتي ساعدت في تغيير المعادلة العسكرية على الساحة الأوكرانية.
وقد ترفع حادثة مقتل العميد رضي الموسوي المسؤول عن الدعم اللوجستي لقوات حرس الثورة والفصائل الموالية لإيران على الساحة السورية من مستوى الحذر الإيراني من الدور الروسي الذي يسمح لسلاح الجو الإسرائيلي بحرية العمل في الأجواء السورية واستهداف قوات إيران وحلفائها على الأرض هناك. وقد لا يكون من السهل على السلطة في إيران التي بنت مواقفها على أساس العداء مع المعسكر الغربي وتعزيز التحالفات الشرقية، الخروج من هذه المعادلة التي التزمت بها، إلا أن تكرار الضربات التي تتلقاها من الحليفين الروسي والصيني واستخدام إيران ورقة على طاولة مصالحهما والتضحية بالمصالح الإيرانية قد تجبر النظام والحكومة الإيرانية على إعادة النظر في آليات تعاملهما مع سياستهما وتحالفاتهما، بخاصة في ظل ما يمكن أن تحمله المرحلة المقبلة من متغيرات إقليمية كثيرة نتيجة ما يمكن أن تسفر عنه نهاية الحرب الإسرائيلية على حركة “حماس” وقطاع غزة.
ومن هنا يمكن وضع الموقف الروسي، إضافة إلى ما فيه من مراعاة لمصالح موسكو الإستراتيجية المتشابكة على أكثر من صعيد في تعزيز علاقاتها مع الدول العربية والخليجية على وجه التحديد، في سياق الخطوة الاستباقية للتخفيف من المكاسب التي يمكن أن تحققها إيران نتيجة المتغيرات الإقليمية، وتأجيل الاستحقاقات المحتملة بينها وبين طهران جراء هذه المتغيرات، إضافة إلى أن موسكو تنظر بعين الشك والقلق من أن تنتهي المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن إلى نتائج إيجابية تنهي أزمة طهران نتيجة العقوبات الاقتصادية، وتعزز موقعها على خريطة المعادلات الإقليمية، فهل تذهب طهران إلى الدفع بالمفاوضات حول أزمتها النووية وكل الملفات الإقليمية مع واشنطن وتسهيل الوصول إلى نتائج إيجابية، وتبدأ بالخروج من دائرة الابتزاز الروسي والصيني؟
وهذا سؤال يرتبط الجواب عليه بمدى استعداد هذه الحكومة للتخلي عن المواقف والشعارات الأيديولوجية التي ترفعها وتقطع الطريق عليها في اتخاذ مثل هذا الموقف.