تستند السياسة الإيرانية إلى ثوابت وركائز عديدة حددها المشروع السياسي للدولة الإيرانية في سعيها للتمدد والنفوذ في مناطق عدة وأقطار عربية ودول إقليمية مختلفة تنفيذاً لتوجهاتها في نشر أفكارها وتحقيق أهدافها عبر استخدام الأسلوب المذهبي طريقاً وممراً مهماً يساهم في تعزيز الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، ووضعت أولويات في عملية التحرك والتواجد في المناطق الإستراتيجية التي تخدم مصالحها وتعزيز تواجدها الدولي والإقليمي فأوجدت حلفاء رئيسين لها في اليمن العربي عبر دعم جماعة الحوثيين ومساندتهم بجميع وسائل الدعم العسكري والأمني وتزويدهم بالمعدات والأسلحة والطائرات المسيرة والصواريخ البالستية وأوجدت لها موقعاً مهماً في منطقة البحر الأحمر وخليج وعدن والخليج العربي ومضيق هرمز.
وبدأت منذ سنوات بالوصول إلى منطقة الساحل والصحراء الغربية في شمال أفريقيا والعمل على تكوين قواعد تنظيمية وإنشاء محطات أمنية في عدد من المدن العربية وخاصة في الجزائر التي ترتبط معها بعلاقات وثيقة واتفاقيات أمنية وتجارية واستثمارات مالية ومواقف سياسية موحدة، وأبتدأ التحرك الإيراني بخطى ثابتةفي منطقة الساحل والصحراء مدعوم بغطاء ديني لاختراق عدد من العواصم العربية والأفريقية نتيجة تراجع النفوذ الفرنسي في القارة السوداء وتسارع إيران لإيجاد موطئ قدم لها في مناطق شمال وغرب أفريقيا واستغلال الفراغ الأمني للتوغل في المنطقة وتنفيذاً لأهداف السياسية الخارجية الإيرانية ومشروعها في الهيمنة والنفوذ ولتنافس محاولات التواجد التركي والصيني والروسي والأمريكي ضمن سياسة تبادل المصالح والمنافع والأهداف الدولية في ضوء عمليات التجاذبات السياسية والمتغيرات الدولية.
وأبتدأت أولى ملامح هذا المخطط بتركيز النشاط الإيراني في مناطق عديدة في جمهورية الجزائر، منها العاصمة ومدن ( باتنة وتبسة وسيدي بلعباس وتيارت وخشلة) وعملت على بناء علاقات إقتصادية ومدها باستثمارات مالية لتحويلها بعد ذلك إلى فصائل مسلحة وأذرع مذهبية لدعم المشروع الإيراني كما حصل في أقطار المشرق العربي ( العراق وسوريا واليمن ولبنان)، وسعت إلى تأسيس أولى خطوات حزب الله المغاربي واعتبرت مدينة ( سيدي خالد) جنوب الجزائر مركز روحي للتشيع الجزائري وأصبحت الطقوس الشعائر المذهبية تمارس سنوياً في بعض البيوت والاماكن الخاصة، وساهمت العلاقة السياسية الوثيقة بين الجزائر وإيران على عملية الاختراق المذهبي وبدأت بتشكيل الهياكل التنظيمية للمراحل الأولى لاختراق المجتمع الجزائري والتأثير على حالة التماسك المجتمعي فيه، ووجهت أدوات الاختراق بشكل أساسي للعاملين في المؤسسات العلمية والثقافية والإعلامية ومنهم التدريسين ورجال العلم والمعرفة في الجامعات والمعاهد الجزائرية والعاملين في المؤسسات الاعلامية والصحف والمجلات ومراكز البحوث.
ورغم خطورة التوجه الإيراني باختراق المجتمع الجزائري والتي تهدد أواصر التلاحم بين أطيافه ومذاهبه من السنة والشيعة والأحمدية والأباضيةإلا ان التحالف مع النظام الإيراني جعل عملية التغاضي الأمني الجزائري عن تحركات الايرانيين وأهدافهم ومشاريعهم تأخذ مداها في حرية الحركة وعقد الاجتماعات وممارسة الطقوس المذهبية وتوفير الحماية لهم،الا ان هناك أصوات في الحكومة الجزائرية ومنها وزير الشؤون الدينية عام 2016 طالبت بوقف التغلل الإيراني وأوضحت أن البلاد تتعرض لهجمة خارجية تستهدف تقسيم الجزائر وان هناك مخططات طائفية لزرع الفتنة في المجتمع الجزائري.
استغلت إيران حالة الخلاف السياسي بين الجزائر والمغرب حول عائدية الصحراء الغربية وطبيعة الأعمال التي تقوم بها جبهة البوليساريو ومطالبتها بالانفصال عن المغرب وإعلان الجمهورية العربية الصحراوية والدعم الجزائري لعناصرها، مَكن الايرانيون من فتح مجالات واسعة لتقديم العون والمساندة لعناصر البوليساريو عبر عمليات التدريب والاعداد العسكري في معسكرات فتحت لهم داخل الأراضي الجزائرية وتزويدهم بالأسلحة والمعدات وبموافقة الحكومة واشراف الحرس الثوري الإيراني، وهذا ما أتفق عليه الجانبين الإيراني والجزائري كونها على خلاف شديد مع المملكة المغربية، فإيران سعت لمحاولة إيجاد قواعد تنظيمية لحزب الله المغاربي في الرباط والقيام بعمليات تستهدف حالة الأمن والاستقرار في المدن المغربية والتي تم مواجهته من قبل الأجهزة الامنية المغربية عام 2009 ثم قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، ودعم مقاتلي جبهة البوليساريو وتدريبهم واعدادهم القتال القوات المغربية، وتعود اسباب الخلاف بين البلدين إلى موقف المغرب الرافض للأنشطة الإيرانية في البحرين واعلان التضامن مع الشعب العربي البحراني.
ان من أهداف السياسة الإيرانية في العواصم العربية في شمال أفريقيا انها تعمل جاهدة على دعم حزب الله المغاربي وتوسيع انتشاره بين الأوساط الإجتماعية وخاصة شريحة الشباب كمرحلة أولية لإنشاء مليشيات وفصائل مسلحة تدين بالولاء للحرس الثوري وللمشروع الإيراني وتؤيد ولاية الفقيه وتحديد مهامها لتكون بوابات متقدمة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط وساحل المحيط الأطلسي والتأثير على حرية الملاحة والتجارة الدولية تجاه أوروبا وبما يخدم أهداف إيران الجيو سياسية والتعبوية، وهذا ما يؤكد ما قاله القائد المنسق للحرس الثوري الإيراني محمد رضا نقدي بتاريخ 23 كانون الأول 2023 بأن ( على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربين أن ينتظروا قريباً إغلاق البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق والممرات المائية الأخرى) في توجه إيراني معلوم لتعزيز المنافع والمكاسب من عملية طوفان الأقصى التي اندلعت فجر يوم السابع من تشرين الأول 2023 وتماشياً مع غلق الحوثيين لباب المندب.
وبسبب السياسة الجزائرية وارتباطها الوثيق بالنظام الإيراني الذي اعتمد مبادئ الايديولوجية الدينية ونصوص الدستور الذي يُقر بتصدير مشروع الدولة الدينية عبر النفوذ والقوة العسكرية وإنشاء المجاميع المسلحة له، فإنها أصبحت القاعدة الخلفية له في منطقة شمال أفريقيا، واستخدمت إيران عملية استقطاب للنخب والأفراد في المجتمع الجزائري ومحاولة كسبهم عبر العديد من الوسائل الثقافي والمنافذ العلمية ومنها ما تقوم به الملحقية الثقافية الإيرانية من فعاليات وبرامج توعية دينية مذهبية تتمثل في إعداد الدورات والمناهج الخاصة بالتشيع وتوزيع الكراسات والكتب التي تتحدث عن المؤسسة الدينية الإيرانية.
ان الأبعاد الحقيقية لمخاطر التوغل الإيراني في منطقة الساحل والصحراء الغربية قد آثار اهتمام الدول الأوربية التي شرعت بعقد منتدى نُضم في العاصمة الإسبانية مدريد بمبادرة من معهد كوردبناداس الاسباني للحكامة والاقتصاد التطبيقي بتاريخ 30 حزيران 2023 تحدث فيه عضو البرلمان الأوربي عن الحزب الشعبي انطونيو لوبيز قائلاً ( إن تغلغل إيران في منطقة الساحل والصحراء بما في ذلك تزويد انفصالي جبهة البوليساريو بطائرات مسيرة يشكل تهديداً حقيقياً ويتعين على الاتحاد الأوربي مواجهته)، ومن خلال مداخلات بين أعضاء المنتدى حول التقارب الجزائري الإيراني وتداعياته على الفضاء الجيو سياسي للمصالح الأوربية والذي بسببه أدى إلى تواجد ونفوذ واسع لإيران في شمال أفريقيا وان استقرار الاتحاد الأوربي والعالم الحر على المحك ومن الأهمية بمكان اتخاذ إجراءات َمنسفة وقوية لمواجهة هذه التحديات.
ان التصريحات الإيرانية الأخيرة حول غلق مضيق جبل طارق إنما تأتي نتيجة الأجواء والبرامج التي تمكن النظام الإيراني من إيجادها على الأرض وتحديداً في الجزائر وتوسيع علاقته مع موريتانيا ورفع للتسيق المشترك بينهما إلى مستويات عالية وبدعم جزائري للتأثير على المغرب مع استمرار الدعم المقدم للحركة الإسلامية في نيجيريا ودعم فصائلها المسلحة بالمال والأسلحة واستقبال قياداتها في طهران ، وإنشاء إيران لشبكات مذهبية نجحت في خلقها ببعض الدول الأفريقية ( كينيا وتنزانيا وموزمبيق) بالاعتماد على عناصر حزب الله من الجالية اللبنانية التي تتواجد في أفريقيا.
ان من أهم الأسباب التي أدت إلى اتساع النفوذ الإيراني هو الغياب العربي لسد الفراغ السياسي في أفريقيا وبتفعيل العلاقات التي كانت قائمة بين الاقطار العربية والدول الأفريقية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي والغياب الأمني بين دول شمال أفريقيا والخلافات السياسية بينهم، كما وان نجاح إيران في تعزيز علاقتها مع الجزائر وموريتانيا واخيراً عودة العلاقات مع السودان كان له الدور البارز في تدعيم المشروع الإيراني في أفريقيا ونجاحها في تهدئة الأوضاع في المشرق العربي بعد الإتفاق السعودي الإيراني وعودة العلاقات الخليجية الإيرانية وتهدئة التوتر في اليمن، كما أن إيران سعت لفتح جبهة بوابتها عبر الجزائر للتخفيف من أزمتها الاقتصادية والالتفاف على العقوبات الاقتصادية الدولية.
يبقى أساس المشروع الإيراني التواجد في أكثر بقاع العالم أهمية ومد اذرع إمكانياته للتأثير على مجريات السياسة الدولية ليُبقى نفسه عاملاً مهماً في أي متغيرات قادمة وليفرض نفسه لاعباً اقليمياً مهماً.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية