استمعت محكمة العدل الدولية وقضاتها الخمسة عشر يومي الخميس والجمعة إلى مرافعة جنوب أفريقيا أولا، والتي اتسمت بقوة الحجة وتسلسل الأفكار ورصانة الحجج وتعدد الوثائق والبيانات والتصريحات التي تؤكد النية المبيتة لدى الكيان الصهيوني لممارسة الإبادة الجماعية، والممارسة العملية لتلك الإبادة. ثم استمعنا في اليوم التالي إلى مرافعات محامي الكيان المهزوزة والمليئة بالثقوب والمقارنات المغلوطة وتكرار خطابات دعائية وتنصل من التصريحات الدامغة حول النية في ارتكاب جريمة الإبادة. بل إنها رمت مسؤولية عدم إيصال المساعدات الإنسانية على مصر باعتبار أن معبر رفح تحت سيادتها. ولا يساورنا شك في أن جنوب أفريقيا ستكسب الموقف وتكون النتيجة لصالح النقاط التي طالبت بها تحت ما يسمى «التدابير المستعجلة أو الاحترازية».
يعد يومي المرافعات يبدأ القضاة جلسات مغلقة للرد على ثلاث مسائل: الاختصاص والرد على طلبات جنوب أفريقيا لإصدار مجموعة من التدابير المستعجلة لوقف ما يجري في غزة، خلال أيام من المفروض ألا تتجاوز الأسبوعين أو الشهر على الأكثر، والتي تتضمن تسع خطوات أولها الوقف الفوري للحرب وإدخال المساعدات العاجلة والكافية، وبعد ذلك يعكف القضاة على دراسة المرافعات والوثائق جميعها لإصدار حكم نهائي لا يقبل النقاش أو الرد أو الاستئناف فيما إذا كانت ممارسات إسرائيل في قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعة وبالتالي تكون إسرائيل في حالة انتهاك «لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» التي صدرت عن الجمعية العامة عام 1948. وهذا الرأي القانوني قد يستغرق وقتا طويلا قد يصل إلى سنة أو أكثر، لحسم ما يسمى «جوهر الشكوى» أي الخروج بفتوى قانونية ملزمة، لكن عملية تنفيذها متروكة للدولة المعنية والدول الأعضاء في الاتفاقية.
حول الاختصاص
محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. ونظامها الأساسي ملحق بميثاق الأمم المتحدة دائما. وتتولى المحكمة الفصل، طبقا لأحكام القانون الدولي، في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. كما أنها الجهة القانونية التي تبت في النزاعات القانونية بين الدول ولا تتناول خلافات الأفراد والجماعات.
وتشمل ولاية المحكمة جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون من ممثلي الدول، كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها في المعاهدات والاتفاقات الدولية والخلافات حول تفسيرها بين الدول الموقعة عليها بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة. لقد تناولت المحكمة منذ بدء عملها عام 1946 العديد من النزاعات بين الدول حول ملكية الأراضي والحدود وملكية الجزر البحرية والمياه الإقليمية والاعتداءات على السيادة وانتهاك القانون الدولي. وسنعرض أثناء هذا المقال عددا من الأمثلة التي أحيلت إلى المحكمة من أجهزة الأمم المتحدة وخاصة الجمعية العامة، بالإضافة إلى عدد من النزاعات بين الدول حيث تقوم دولة بتقديم شكوى ضد دولة أخرى لأنها في حالة انتهاك للقانون الدولي أو ارتكاب جريمة العدوان أو جريمة الإبادة الجماعية.
ولا يمكن للمحكمة أن تبت في نزاع إلا إذا كانت الدول طرفا فيه أو قبلت باختصاص المحكمة أو أن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية تتضمن بندا ينص على السماح لأحد أطراف النزاع بعرض المسألة على المحكمة في حالة وجود خلاف على تفسير بنود الاتفاقية أو المعاهدة. وهذا البند مثبت في نحو 300 اتفاقية دولية.
ما هي اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها؟
في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948 صوتت الجمعية العامة بالإجماع على «الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» التي دخلت حيز النفاذ في 12 كانون الثاني/يناير 1951. وقد وصل عدد الدول الأعضاء المنضمة للاتفاقية بعد التصديق عليها 153 دولة من بينها إسرائيل والولايات المتحدة وفلسطين وجنوب أفريقيا. وكانت هذه الاتفاقية أول وثيقة دولية تتعلق بحقوق الإنسان، فقد سبقت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقيات جنيف الأربع. لقد حظيت هذه الاتفاقية بالإجماع بسبب أهوال الحرب العالمية الثانية، وعمليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود أساسا والغجر والألمان واليابانيون عدا عن نحو ستين مليون قتيل سقطوا في الحرب.
وتعرف الاتفاقية الإبادة الجماعية في المادة الثانية بأنها الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه وتشمل:
أ- قتل أعضاء من الجماعة؛
ب- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛
ج- إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا؛
د- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛
هـ- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
ووفقاً للمادة الثالثة من الاتفاقية فإن العقاب على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية يجب أن يشمل كل من يثبت ارتكابه لأحد الأعمال التالية:
أ- الإبادة الجماعية؛
ب- التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛
ج- التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛
د- محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛
هـ- الاشتراك في الإبادة الجماعية.
أما دور محكمة العدل الدولية فيأتي عندما تحدث خلافات بين الدول حول قيام طرف بانتهاك الاتفاقية. حيث تنص المادة التاسعة من الاتفاقية على أنه تعرض، على المحكمة، بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة. وليس بالضرورة أن تكون الدولة المتقدمة بالشكوى طرفا في النزاع.
وقد تم تفعيل الاتفاقية بعد مذابح رواندا عام 1994 التي صنفت إبادة جماعية، حيث حاول الهوتيون أن يقضوا تماما على جنس التوتسي، وفي مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك 1995 خاصة ما جرى في سربرينيتسا، إذ حاولت عناصر الصرب إبادة المسلمين جزئيا أو كليا. وفي عام 2007 خلصت المحكمة إلى أن صربيا فشلت في منع الإبادة الجماعية في سربرينيتسا في البوسنة والهرسك.
كما عرضت غامبيا على المحكمة مسألة قيام حكومة ميانمار بممارسات إبادة جماعية لمسلمي الروهينغا عام 2019 وكذلك تقدمت أوكرانيا عام 2022 بشكوى ضد روسيا بتهمة ممارسة الإبادة الجماعية ضد الشعب الأوكراني، وما زالت القضية قائمة لم تحسم من حيث الجوهر، أي الفتوى بأن ما تقوم به روسيا في أوكرانيا يرقى لمستوى إبادة جماعية.
وفي كلتا الحالتين (ميانمار وروسيا) طلب من المحكمة النظر في تدابير مستعجلة لوقف الأعمال القتالية التي قد توصف بأنها إبادة جماعية. في حالة ميانمار لوحظ أن الجيش في ميانمار خفف من حدة عملياته واستهدافه مسلمي الروهينغا. بينما في الحالة الروسية، والتي طلب منها أن توقف الحرب، لم يأبه الجيش الروسي بالطلب الصادر عن محكمة العدل الدولية واستمر في عملياته العسكرية.
وأحكام محكمة العدل الدولية نهائية، ولا تخضع للاستئناف. والأمر متروك للدول المعنية لتطبيق قرارات المحكمة في ولاياتها القضائية الوطنية. وفي معظم الحالات، تحترم التزاماتها بموجب القانون الدولي وتمتثل إليها. وإذا فشلت دولة ما في أداء الالتزامات الملقاة على عاتقها بموجب حكم ما، فإن الحل الوحيد المتبقي هو اللجوء إلى مجلس الأمن الذي يمكنه التصويت على قرار، لكن في الحالة التي قيد البحث فإن الفيتو الأمريكي قد يمنع إقرار الرأي القانوني الصادر عن المحكمة إذا ما كان لغير صالح إسرائيل.
وقد حدث هذا في قضية رفعتها نيكاراغوا للمحكمة ضد الولايات المتحدة عام 1984 للمطالبة بتعويضات عن الدعم الأمريكي لمتمردي الكونترا ونشر ألغام مائية في مياه نيكاراغوا الإقليمية. وحكمت محكمة العدل الدولية لصالح نيكاراغوا، لكن الولايات المتحدة رفضت قبول النتيجة. ثم رفعت نيكاراغوا الأمر إلى مجلس الأمن، حيث استخدمت الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» ضد مشروع القرار. لكن الحكم الصادر من المحكمة شكل ضغطا أخلاقيا كبيرا على إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان وقبل فكرة المفاوضات ثم أوقف زرع الألغام المائية.
وفي آذار/مارس 2023 اعتمدت الجمعية العامة قراراً يطلب من المحكمة إصدار فتوى بشأن التزامات الدول فيما يتعلق بتغير المناخ، حيث أشاد معظم المتحدثين في النقاش بتلك الجلسة باعتبارها علامة فارقة في مسيرتهم المستمرة منذ عقود في النضال من أجل العدالة المناخية. ولا تزال الإجراءات الاستشارية سارية. وعندما يصدر الرأي القانوني ويصبح ملزما سيكون من الصعب على الدول، وخاصة الصناعية، انتهاك ذلك القرار والاستمرار في ممارسات تساهم في التغير المناخي.
فلسطين ومحكمة العدل الدولية
أحالت الجمعية العامة عام 2003 مسألة قيام إسرائيل ببناء جدار عازل ضخم معظمه مقام على الأراضي الفلسطينية وطلبت رأيا قانونيا. بدأت المداولات في تشرين الثاني/نوفمبر 2003 وانتهت المداولات التي قاطعتها إسرائيل إلى إصدار فتوى قانونية يوم 9 تموز/يوليو 2004 تنص على أن «الجدار غير شرعي ويجب أن يفكك ويتم التعويض على الفلسطينيين الذي تضرروا من الجدار». غير أن إسرائيل رمت بالقرار عرض الحائط.
وبعد قيام الرئيس الأمريكي السابق دولاند ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة تخضع للسيادة الإسرائيلية وقام بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، تقدمت السلطة الفلسطينية بشكوى للمحكمة عام 2018 طلبت منها إصدار فتوى قانونية حول شرعية بناء السفارة الأمريكية على أرض محتلة.
وكانت فلسطين تستند في دعواها أمام المحكمة الدولية إلى البروتوكول الاختياري لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية بشأن تسوية النزاعات، الذي انسحبت منه واشنطن بعد أيام على تقديم الفلسطينيين شكواهم، لمنعهم من مقاضاة الحكومة الأمريكية أمام تلك المحكمة. أعلنت واشنطن رفضها لولاية محكمة العدل الدولية، معتبرةً أنها «مسيّسة وغير فعّالة» لكن وزير الخارجية الفلسطيني أشار إلى أن انسحاب واشنطن من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية «لن يعفيها من المساءلة القانونية». لكن السلطة الفلسطينية عادت وسحبت الشكوى عام 2021 بعد انتخاب جو بايدن رئيسا.
وهذه هي المرة الثالثة التي تأتي من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل وجيشها الذي يرتكب إبادة جماعية في غزة، التي أصبحت هدفًا للقصف الجوي والبري والبحري المكثف الذي تقوم به القوات الإسرائيلية ضد كل سكان غزة حيث وصل عدد الضحايا وقت المرافعة نحو 23 ألف ضحية و60 ألف جريح ونحو 8 آلاف مفقود معظمهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة.
وفي الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا، تقول إن حكومة إسرائيل وعملياتها العسكرية في غزة تنتهك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي وقعت عليها كل من إسرائيل وجنوب أفريقيا. وفي الطلب المكون من 84 صفحة المقدم أمام المحكمة، قالت بريتوريا إن «الأفعال والتقصيرات من قبل إسرائيل» هي «ذات طابع إبادة جماعية» لأنها تهدف إلى تدمير «جزء كبير من المجموعة الوطنية والعنصرية والإثنية الفلسطينية».
وتقول بريتوريا إن الهجمات المستمرة على البنية التحتية في غزة، بما في ذلك شبكات المياه والمدارس والمستشفيات، هي محاولة متعمدة من جانب إسرائيل للقضاء على حياة الفلسطينيين في غزة، وهناك نية للإبادة الجماعية على لسان كافة المسؤولين السياسيين والعسكريين لارتكاب هذه الأفعال. كما أن هناك أفعالا مثبتة ترتكبها القوات الإسرائيلية مثل قتل الفلسطينيين أو إلحاق الأذى الجسيم بهم كمجموعة قومية عرقية و«فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى إحداث تدمير جسدي لهم، كليا أو جزئيا» كما تنص الاتفاقية. إضافة إلى التجويع المتعمد لسكان غزة باعتباره عقوبة جماعية قد تصل إلى إحداث تغيير جسدي كبير. كما تقوم إسرائيل بتدمير منهجي لمواقع التراث الفلسطيني مثل المسجد العمري الكبير، وهو في الأصل كنيسة بيزنطية تعود إلى القرن الخامس، وكنيسة القديس برفيريوس، التي تأسست عام 425 ميلادي، ويُعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، للقضاء على تراث وتاريخ الفلسطينيين. وقد قُتل مهنيون، بمن فيهم صحافيون ومعلمون وأطباء، في الهجمات الانتقامية الإسرائيلية على غزة وهذا لا يعني أبدا أنهم كما يدعون لا يتقصدون المدنيين.
التدابير المستعجلة
تسعى جنوب أفريقيا إلى إقناع المحكمة لاتخاذ تسعة تدابير مستعجلة تهدف إلى منع تدهور الوضع بشكل أكبر أثناء استمرار المحاكمة وتشمل مطالبة إسرائيل بوقف قصفها لقطاع غزة على الفور ومنع المزيد من الإبادة الجماعية؛ وعدم اتخاذ خطوات من شأنها أن تعزز أي عملية عسكرية في غزة من قبل أي مجموعة تحت سيطرتها. كما تطالب بعودة النازحين إلى منازلهم وحصولهم على المساعدة الإنسانية، بما في ذلك الغذاء والماء والوقود والمواد الطبية والنظافة والمأوى والملابس.
وأيضا اتخاذ الخطوات اللازمة لمعاقبة المتورطين في أعمال الإبادة الجماعية، والحفاظ على أدلة الإبادة الجماعية وعدم منع الموظفين الدوليين وغيرهم من المسؤولين من الوصول إلى غزة لهذا الغرض، وتقديم تقارير منتظمة إلى المحكمة بشأن تنفيذ التدابير المذكورة، والامتناع عن التصرفات التي من شأنها تعقيد القضية أو إطالة أمدها.
قد يصدر الحكم في التدابير المستعجلة خلال أسبوعين إلى شهر بعد جلسات الاستماع. أما الفتوى النهائية في ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية فقد تستغرق سنوات. لكن التدابير المستعجلة قد تجبر إسرائيل على إعادة النظر فيما ترتكبه من جرائم وعقوبات جماعية وجرائم قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. ولكن هل عودنا هذا الكيان على أن يصغي يوما ولو مرة واحدة للقانون الدولي أو القانون الدولي الإنساني أو القانون الدولي لحقوق الإنسان؟