في العرف السياسي، لا الدستور العراقي، بنيت السياسة على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، فمنصب رئيس الجمهورية بات من حصة المكون الكردي، فيما يأخذ المكون الشيعي منصب رئاسة الوزراء، والمكون السني له منصب رئاسة مجلس النواب، وهذا ما يجعل العملية تدور في حلقة ضيقة ودوامة طويلة تأخذ أشهراً عدة لحين توصل الكتل الكبرى وزعمائها إلى توافقات مرضية حول التصويت لمرشح المنصب، سواء كان رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب، وكالعادة يحسم المنصب بعد أشهر من الاجتماعات السرية غير المعلنة، كما يحصل الآن في عملية اختيار منصب رئيس مجلس النواب، في تصويت لم ينجح أو يكتمل حتى هذا اليوم بسبب الخلافات بين القوى السياسية.
إنها ليست المرة الأولى في تاريخ السياسة ما بعد عام 2003، أن يعجز مجلس النواب العراقي في اختيار سواء رئيس الجمهورية أو رئيس مجلسه، نتيجة تلكؤ الكتل السياسية الكبرى في الوصول إلى تفاهمات وتوافقات في ما بينها، ما يضع العملية السياسية في البلاد داخل نفق مظلم، إذ دائماً ما تسود جلسة مجلس النواب الفوضى والمشاجرات ما يقود إلى إلغائها حتى إشعار آخر، متجاوزة المدد الدستورية المحددة للتصويت لاختيار منصب الرئاستين.
نظرة إلى الوراء
بالعودة قليلاً للوراء، تجاوز البرلمان العراقي المدد الدستورية لتشكيل الحكومة العراقية بعد مضي قرابة 7 أشهر على إجراء الانتخابات المبكرة التي أجريت في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، بعد أن شهدت البلاد تظاهرات كبرى مناهضة للفساد والسلطة. وتعمد الكتل الكبرى للذهاب نحو مقاطعة جلسات مجلس النواب لإفشال عملية التصويت لحين ترشيح الشخصية التي توافق آراءهم وتوجهاتهم السياسية ومصالحهم.
ففشل البرلمان العراقي في انتخابات رئيس مجلس النواب أو رئيس الجمهورية لم يعد أمراً جديداً، بل متعارفاً عليه في تاريخ العملية السياسية الحالية، فبعد خلو مقعد رئاسة البرلمان منذ أكثر من شهرين بإزاحة محمد الحلبوسي من منصبه بقرار من المحكمة الاتحادية العليا على خلفية تهم فساد، لم يتمكن مجلس النواب بعد من اختيار بديله، وقد تأخرت عملية الانتخاب لرئيس المجلس تارة بسبب إجراء العراق انتخابات محلية وانشغال النواب في انتخابات مجالس المحافظات، وبسبب الخلافات بين الكتل السياسية وعدم طرح مرشحين توافقيين تارة أخرى، مما يدفع العملية السياسية نحو منزلق خطر في وقت تشهد البلاد توتراً سياسياً وأمنياً لا يتحمل مزيداً من التشنجات بين الأطراف السياسية.
في جلسة مجلس النواب الأخيرة، لاختيار منصب رئيس المجلس، سادت الجلسة أجواء متشنجة بين نواب الكتل الكبرى، خلال عملية التصويت على المرشحين الذين تقدموا بترشيح أنفسهم لشغل المنصب، حيث استمرت الجلسة عدة ساعات لكنها انتهت برفعها حتى إشعار آخر بعد جولتين من التصويت نتيجة عدم توافق الكتل والقوى السياسية على مرشح يحظى بقبول الجميع، ما أدى إلى إفشال عملية التصويت، بسبب الخلافات الحادة بين الكتل السياسية داخل قبة البرلمان.
حضر جلسة التصويت 232 نائباً من أصل مجموعهم الكلي 329، وقد رشح ستة نواب أنفسهم لمنصب رئيس المجلس، وهم سالم العيساوي وطلال الزوبعي وعامر جبار ومحمود المشهداني وشعلان الكريم وطلال الزوبعي، فيما انسحب الأخير من الترشح قبيل الجلسة من أجل تقليص دائرة التنافس لحسم عملية انتخاب رئيس البرلمان، بحسب تصريحه خلال الجلسة.
وكشفت نتائج التصويت في الجولة الأولى عن تصدر النائب شعلان الكريم مرشح حزب “تقدم” (الذي يترأسه الحلبوسي) نتائج التصويت بعد حصوله على 152 صوتاً، فيما جاء من بعده النائب سالم العيساوي الذي حصل على 97 صوتاً، وثالثاً النائب محمود المشهداني بواقع 48 صوتاً. وتشير المادة 55 من الدستور العراقي إلى انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه الأول والثاني بالغالبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس بالانتخاب السري المباشر.
مزيد من التأزم
في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، قال الباحث في الشأن السياسي رعد هاشم إن “سيناريو التأخير سيؤدي إلى مزيد من التأزم السياسي وتأخير تشريعات هامة، فضلاً إلى أن ذلك سيفضي لفتح أبواب فساد مضافة وشراء ذمم، وأيضاً تحريك بعض الجهات لملفات تثير النعرات الطائفية لإشغال الشارع”. ورأى هاشم أن التوافق السياسي حتماً ينتج شخصية توائم الجو السياسي الذي يعاني اهتزازات وتصدعاً منذ اعتزال الصدر، مضيفاً أنه “على رغم انكفاء المجلس في الأشهر الأخيرة ومحاولة إضعاف وتعطيل دوره التشريعي، في مخالفة صريحة لإرادة الشعب، لا بد من العمل على إعادة إحياء دوره الفاعل بعيداً من المراهنات والخلافات السياسية”.
وتذكر المادة 12 ثالثاً من النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي على أنه “إذا خلا منصب رئيس المجلس أو أي من نائبيه لأي سبب كان، ينتخب المجلس بالغالبية المطلقة خلفاً له في أول جلسة يعقدها لسد الشاغر وفقاً لضوابط التوازنات السياسية بين الكتل”، بينما فشل البرلمان العراقي، للمرة الثالثة على التوالي، في انتخاب رئيس المجلس، على خلاف ما جاءت به تلك المادة، وهو الانتخاب من أول جلسة يعقدها.
وفي مقابلة مع النائب فراس المسلماوي، عن كتلة “دولة القانون” قال “الذي عقد المشهد في انتخاب رئيس مجلس النواب هو نتيجة تقديم مرشح جدلي غير مقبول في الأوساط السياسية والاجتماعية، وكان من الأجدر بالمكون السني، وتحديداً كتلة “تقدم”، أن يقدم شخصية تتحلى بالمقبولية بين جميع الأوساط، وتتمتع بالمهنية والتجربة السياسية والاعتدال في الخطاب، لأن مجلس النواب هو مجلس لكل الشعب العراقي وليس لمكون محدد”.
وتابع المسلماوي “السيناريوهات المقبلة قد تتجه نحو احتمالات عدة، منها إلغاء الجلسة الأولى بالكامل وإعادة الأمر إلى بداياته، بالتالي ستغير الكتل السياسية مرشحيها وتطرح أسماء تتحلى بالصفات التي ذكرتها. أما السيناريو الآخر فهو أن يقوم المرشحون من أجل المصلحة العامة بسحب ترشيحهم وتعاد من جديد الكرة الأولى، أو نشهد سيناريو ثالثاً وهو أن تستكمل الجولة الثانية باستبعاد مرشح “تقدم” والإبقاء على المرشحين الآخرين”.
خروقات دستورية
“نحن مع أن تكون هناك مشاركة سياسية من قبل الجميع، والكل يأخذ حقه شريطة أن لا يتم فرض شخصية معنية، وأن لا يستعمل المال السياسي لشراء الذمم كما حصل في الجولة الأولى من الجلسة، ولذلك قدم بعض من السادة النواب طعوناً وشكاوى بخصوص هذا الأمر” أضيف المسلماوي.
وفي شأن الخروقات التي حصلت في جلسة اختيار رئيس المجلس، وما تناولته مواقع التواصل الاجتماعي، نشر النائب هيبت الحلبوسي على منصة “إكس” قائلاً “أقمنا دعوى قضائية أمام المحكمة الاتحادية العليا في شأن الخروقات والمخالفات الدستورية والقانونية التي رافقت جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب، وطلبنا التركيز على عدم دستورية الإجراءات وإلزام المدعى عليه بإبطال الجلسة رقم 1 للسنة التشريعية الثالثة المنعقدة بتاريخ 13 يناير (كانون الثاني) 2024، وعدم تكرار تلك المخالفات”. وأضاف “لقد مارس نائبا رئيس مجلس النواب مخالفات عرقلت جلسة اختيار رئيس المجلس على رغم اكتمال النصاب القانوني وانتظار النواب لساعات، الأمر الذي يؤشر إلى عدم التزامهما بقانون المجلس ونظامه الداخلي، وإسهامهما بخلق الأزمات للحيلولة دون فوز رئيس يتولى إدارة المجلس ويضع حداً لاجتهاداتهم الشخصية”.