كانت كلمة “ميدان” في بيروت تستخدم لشيء واحد هو ميدان سباق الخيل، وخلال الثورات الملونة في بلدان أوروبا الشرقية كان “الميدان” هو ساحة التظاهرات كما في كييف عاصمة أوكرانيا.
اليوم يرد الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله على الأسئلة المتعلقة بمساندة “حماس” والصراع مع إسرائيل بعبارة واحدة “الكلمة للميدان”.
والميدان حالياً واسع من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر مروراً بالشرق والجنوب في سوريا، وبغداد والشمال الكردي في العراق. وكل ما فيه يدور تحت عنوان واحد “إسناد” حركة “حماس” في حرب غزة، وكل تطور أو تغيير فيه مربوط بما يحدث في حرب غزة، بالتالي بوقف النار في القطاع.
شيء جديد وقديم في آن، فالحروب العربية-الإسرائيلية منذ 1948 حتى 1973 كانت حروب جيوش كلاسيكية ودول تتركز في “دول الطوق” تساندها بقية الدول العربية بأسلحة متنوعة كان أهمها سلاح النفط الذي استخدمه العاهل السعودي الملك فيصل بن عبدالعزيز ضد أميركا وأوروبا وبقية الدول المساندة لإسرائيل في حرب 1973، أما القيادة، فإنها في القاهرة ودمشق.
حروب اليوم هي بين ميليشيات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني وإسرائيل ضمن “وحدة الساحات في محور المقاومة”، أما القيادة العليا، فإنها في طهران التي لا تقاتل مباشرة، والقيادة العملانية في قطاع غزة الضيق الفقير، والبقية موزعة بين “حزب الله” في لبنان و”المقاومة الإسلامية” في العراق وسوريا والحوثيين في اليمن، وبهذا المعنى، فإن يحيى السنوار هو مركز اللعبة، وقد حصل على بعض ما يريد منذ “طوفان الأقصى”.
لكن الميدان هو مسرح قتال في إطار سيناريو محدد أو مفتوح يديره مخرج، حيث القرار الاستراتيجي للقيادة السياسية، وتجربة الاتكال على الميدان في الماضي وفي الحاضر بالغة التعبير.
كل الحروب العربية-الإسرائيلية، بصرف النظر عن الانتصارات والهزائم، فشلت في ضمان الأمن للدول العربية والدولة العبرية، فلا شيء يضمن الأمن سوى التسويات التي تضمن الحقوق المشروعة وتحقق السلام مع العدالة، وكل ما يدور اليوم بين “محور المقاومة” وإسرائيل، لا سيما بعد الدور المهم للصواريخ والمسيرات في المعارك، يكشف حقيقة لا مهرب منها، لا قوة كبيرة أو متوسطة أو صغيرة قادرة على ضمان أمنها.
إسرائيل قادرة على تدمير غزة، لكنها عاجزة عن حماية شعبها في غلاف غزة والجليل الأعلى، حيث اضطر مئات الألوف للنزوح من أماكنهم، وأكثر عجزاً عن “تصفية” القضية الفلسطينية، و”حماس” قادرة على إيذاء إسرائيل وإحداث زلزال سياسي وعسكري وأمني كبير فيها، لكنها عاجزة عن حماية شعبها في القطاع، الذي صار 90 في المئة منه نازحاً.
“حزب الله” أيضاً قادر على إيذاء إسرائيل وإلحاق أكبر قدر من التدمير والخسائر بها، لكنه عاجز عن حماية اللبنانيين في الجنوب وبقية المناطق، حيث النزوح حتمي، ولا مجال لما يسمى النصر الحاسم، وإن شاع تعبير “النصر الإلهي” بعد الحروب بين “حزب الله” وإسرائيل.
لا إسرائيل قادرة عسكرياً وبشرياً على تحقيق شعار “إسرائيل الكبرى” التي تشمل كل فلسطين، ولا بالطبع على تحقيق الشعار الخرافي الذي اسمه “أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل”، ولا الدول العربية التي خاضت الحروب الكلاسيكية تمكنت من تحرير فلسطين أو حتى من “إزالة آثار العدوان” بعد حرب 1967، لأي العودة إلى حدود الخامس من يونيو (حزيران) عشية الحرب في 1967، وما حدث من استعادة أرض كان بالتسويات.
الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران أو المتمسكة بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني لا تستطيع تحرير فلسطين من البحر إلى النهر في “الميدان” أو خلال جيل واحد، وليست المطالبة الملحة بوقف النار في غزة مجرد مسألة إنسانية رحمة بأهل القطاع بمقدار ما هي تسليم بالحاجة إلى تسوية سياسية، مهما يكن نوعها وحجمها.
الناس لها حق في الحياة والتنمية والتعليم، والمؤكد، حتى الآن، في تجربة “الميدان” منذ 1948 هو حكم العسكر والميليشيات الذي يصادر الحريات والحاضر والمستقبل ويستخدم الماضي باسم “القضية” من دون تحقيق ما تحتاج إليه، وكلما تأكدت هذه الحقيقة بالملموس ازداد الطرف اليميني في إسرائيل الرافض لأي تسوية، وازداد تحكم الشعارات في العالم العربي.