أوضحت الانتخابات الإيرانية القادمة لمجلس الشورى ( البرلمان) عمق الصراعات السياسية والاختلاف الفكرية في أوساط الحكم الإيراني وطبيعة الإجراءات التي أتخذها النظام في أبعاد الشخصيات السياسية المعتدلة والإصلاحية من قوائم المرشحين للبرلمان ومجلس خبراء القيادة عبر التفويض الممنوح لمجلس صيانة الدستور بأبعاد أي مرشح لا يتوافق والرؤية الميدانية التي يرغب فيها من قيادة البلاد أو الإعتراض على السياسة الداخلية والخارجية المتبعة من قبل مسؤولي النظام المدعومين من المرشد الأعلى علي خامنئي والذي يعمل على تثبيت اركان ومرتكزات الدولة والتدخل في اختيار خليفة له لحصر السلطات جميعها بيد قوى وشخوص الدولة العميقة التي تقود وتوجه النظام الإيراني بما يتلائم وغاياتهم وأهدافهم في تمدد المشروع السياسي للنظام وهيمنة وسيطرة الأجهزة والدوائر الأمنية والاستخبارية على مجمل الأوضاع القائمة في إيران.
وتجري انتخابات الدورة الثانية عشر للبرلمان الإيراني في الأول من آذار 2024 وتحظى باهتمام بالغ من قبل القيادة الإيرانية التي سخرت جميع إمكانياتها والإعلامية والسياسية والإجتماعية لإنجاحها وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية لاثبات شرعية النظام وقدرته على الاستمرار في قيادة وحكم البلاد بعد العديد من الأزمات الاقتصادية والإجتماعية التي عصفت بالمجتمع الإيراني نتيجة السياسات التي يتبعها النظام في علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وعدم تجاوبه الإيجابي مع متطلبات مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستمرار العقوبات الدولية وتزايد نسبة التضخم وانهيار العملة المحلية وسوء الإدارة وتفشي الفساد المالي واضمحلال عملية التغيير والإصلاح بعد العديد من الاحتجاجات الشعبية التي رافقت أحداث مقتل الشابة الكردية ( مهسا أميني) في اواسط أيلول 2022 والمواجهات التعسفية التي قامت بها الأجهزة الامنية وأدت إلى اعتقال الآلآف من المتظاهرين ومقتل (600) منهم في الأشهر العشرة من عام، 2023.
جاء قرار مجلس صيانة الدستور التابع للنظام الإيراني وهو هيئة مكونة من أثني عشر عضواً يعينهم المرشد علي خامنئي بشكل مباشر وغير مباشر، باستبعاد الرئيس السابق حسن روحاني عن انتخابات ( مجلس خبراء القيادة) التي تجري بالتزامن مع انتخابات البرلمان، ليؤكد حقيقة الصراع السياسي وصورة المناكفات الحاصلة داخل دائرة الحكم الإيراني، فسبق للمجلس وان قام باستبعاد العديد من الشخصيات البارزة للترشيح لمنصب الرئاسة الإيرانية في الأعوام الماضية وترك المجال الرئيس الحالي ابراهيم رئيسي للفوز بالرئاسة دون منافسة حقيقية، الأمر الذي أدى إلى انخفاض نسبة المشاركة الشعبية والذهاب لصناديق الاقتراع. وهذا ما يتكرر حالياً باستبعاد شخصيات مؤثرة في التيارين المعتدل والإصلاحي.
ان الأبعاد الحقيقية لاستبعاد روحاني والذي سبق وان شغل منصب رئيس جمهورية إيران للأعوام ( 2013_ 2021) هي بسبب موقفه والتيار المساند له من الإصلاحيين حول رؤيته للحكم وضرورة أعداد برامج خاصة بتغيير السلوك السياسي القيادي للنظام وإيجاد منطلقات حديثة تساهم في عودة إيران لتأثيرها الدولي والإقليمي، ولكن بسبب عدم تمتعه بعلاقة جيدة مع التيار المحافظ الذي وقف بالضد منه ومن جميع الإجراءات والسياسات التي اتبعها طيلة فترة رئاسته لإيران ورفضه ان يكون تابع لأي تيارات وشخصيات فعالة تلقى الدعم من المرشد الأعلى خامنئي، هذا الأمر سبب له الكثير من الخلافات والمعوقات وخلق العديد من الصراعات التي انعكست أخيراً على قرار مجلس صيانة الدستور باستبعاده من الانتخابات القادمة بفعل هيمنة وسيطرة أركان الدولة العميقة الذين تلقوا بارتياح بالغ قرار استبعاد روحاني والذي كان يشكل لهم قلقاً وازعاجاً كبيراً بعد دخوله للانتخابات عبر ترشيحه عن دائرة العاصمة طهران التي لها رمزيتها الخاصة لدى النظام.
ومعلوم أن روحاني يمتلك علاقات واسعة وتأثير شعبي يمكن خلاله الاستحواذ على دائرة طهران الانتخابية بأصوات عالية ونتائج كبيرة، وهذا ما يمكنه من لعب دور مؤثر في اي اختيارات قادمة لخلافة المرشد خامنئي وقد يذهب بعيداً لينافس عليها ويدخل في صراعات جديدة مع القيادات العسكرية والسياسية في الحرس الثوري الإيراني الذين يدعمون ترشيح ابراهيم رئيسي لخلافة خامنئي، وهو الذي يضمن لهم الهيمنة والسيطرة على جميع السلطات الحاكمة في إيران ومنها السلطة الدينية التي يحتكم إليها الجميع ويعملون على تنفيذ توجهاتها وتعليماتها والالتزام بها حسب السياقات المعروفة.
جاءت عملية استبعاد روحاني لتمثل سياسة داخلية متبعة من قبل النظام بمنع مشاركة أي شخصية مؤثرة قد تؤدي إلى أخلال بسياسة النظام ومديات هيمنته وسيطرته على الساحة الداخلية وابعاد سياسته الخارجية، والدولة العميقة تدرك أن الخبرة الواسعة التي يمتلكها روحاني عبر عمله في مجلس الدفاع الأعلى وصياغته للعديد من القرارات الاستراتيجية المهمة التي ساهمت في رسم ملامح السياسة الإيرانية والتي بموحبها كلف بمهمام رئاسة المجلس الأعلى للأمن القومي وعمله عضواً في مجلس النواب لعدة دورات ودورتين في مجلس خبراء القيادة، أخيراً ترشيحه عن دائرة طهران التي ابتعد عنها الرئيس ابراهيم رئيسي ورشح عن دائرته التاريخية خراسان الجنوبية ليكون ممثلاً لها في الانتخابات عن مجلس خبراء القيادة، وأبتعد عن دائرة العاصمة الإيرانية خشية من فشله بوجود حسن روحاني، ولكن القرار الاخير لمجلس صيانة الدستور والذي أجاز له قانون الانتخاب الخاص بمجلس خبراء القيادة تغيير دائرة أي مرشح ونقله إلى دائرة أخرى، فمن الممكن أن يتم زج الرئيس ابراهيم رئيسي في دائرة العاصمة طهران بعد أن تم استبعاد روحاني، ولهذا يمكن لرئيسي ان يفوز حتى ولو بالتزكية عن الدائرة الانتخابية.
أمام هذه التحديات ولاثبات شرعية النظام ومحاولة اقناع الايرانيين بالمشاركة في الانتخابات القادمة وتحقيق نسبة جيدة يمكن أن يعول عليها التظام في إثبات وجوده ودعم مرشحي التيار المحافظ وتحقيق أهداف وغايات أدوات الدولة العميقة، جاء التحرك المباشر وعلى جميع الأصعدة ومع معظم منظمات المجتمع للمرشد الأعلى علي خامنئي في دعوته للنساء الإيرانيات بتاريخ 27 كانون الأول 2023 بضرورة اقناع ازواجهن وأبنائهن للذهاب إلى صناديق الاقتراع واختيار ممثليهم وقوله ( أن النساء يمكنهن المساعدة في فحص أهلية المرشحين للانتخابات)، ثم لقائه مع الأكاديمين ورجال الدين في 23 كانون الأول 2023 وأشارته إلى أنه ( إذا أردنا حل المشاكل فعلينا زيادة مشاركة الناخبين وأنها واجب على الجميع)، ثم كان لقاؤه مع قيادات الحرس الثوري في أوائل عام 2024 وقوله ووصفه بالمقاطعين للانتخابات ( بالعدائين، وان من يعارض الانتخابات فهو معارض للنظام والاسلام).
إن دعوة المرشد الأعلى للمشاركة الواسعة في انتخابات مجلس الشورى ( البرلمان) في آذار 2024 إنما تعني تحفيز للقوى الموالية للنظام للعمل على تحريك قواعدهم الشعبية ومنع حالة المقاطعة والامتناع عن الذهاب لصناديق الاقتراع وهو توجيه صادر من أعلى جهة دينية وسياسية، سيخدم توجهات الدولة العميقة ويزيد من نفوذها وامكانيانها في قيادة البلاد.
يحاول النظام الإيراني طرح عدة شعارات لكيفية قيادة الدولة بعد الانتهاء من الانتخابات التشريعية منها تحسين علاقاته مع دول الجوار وتنويع التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة والتقليل من آثار العقوبات الدولية والاحتفاظ بقدر من العلاقة السياسية في عملية الحوار والتفاوض مع جميع الأطراف بانتظار نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة وانعكاسها على مجمل المشهد العام الإيراني وتبعيات العلاقة مع الإدارة الأمريكية وتوجيهات الرئيس القادم، في حين أن النظام لا يزال مستمر في عملية تخصيب اليورانيوم بنسب عالية ويتبع سياسة القبض والبسط مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في محاولة لمنع إحالة الملف النووي الإيراني لمجلس الأمن الدولي مع استغلال حالة استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعد الأحداث الدامية والمواجهة في قطاع غزة لتقليل الضغط عليه في معالجة ملفه النووي وضبط أنشطة الحرس الثوري المتعلقة بتطوير برنامج الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة ودعم الوكلاء الفصائل المسلحة التابعة له.
في حين يرى الرئيس السابق حسن روحاني وفي حديث له في العاصمة طهران مع مجموعة من الشخصيات الكوادر الإيرانية بتاريخ التاسع من تشرين ثاني 2023 أن عدم المشاركة في الانتخابات يعني ( تسهيل بشكل فعال انتخاب غير المؤهلين، وأن البلاد هي ملكنا جميعاً وليست لفصيل او جماعة معينة، وأن سيطرت التيار المحافظ على جميع فروع السلطة منذ عام 2021 ساهم في أبعاد المعتدين والإصلاحيين عن المشاركة في الحكم وأدى الي انخفاض نسبة اقبال الناخبين لصناديق الاقتراع وقناعتهم بعدم جدوى هذه الانتخابات وانها تمثل لهم خيبة أمل) .