تبدو المواجهات بين الولايات المتحدة وإيران محسوبة جيدا، كي لا تخرُج عن الخطوط المرسومة، وتقود إلى ما هو أكبر. وهي تجري، حتى الآن، في كل من سورية والعراق واليمن، وفق مقاييس دقيقة، تحسب كل خطوة، ومستوى ردّ الفعل المناسب عليها. ورغم التصعيد في اللهجة من مسؤولي البلدين، لا تبدو الحرب المباشرة قريبة، بسبب إدراك كل منهما الكلفة العالية، وعدم وجود مصلحةٍ فعليةٍ لأيٍّ من الطرفين في تفجيرها. وحسب ما هو واضح من تجارب العقود الماضية، مهما ارتفع منسوب التوتر بين واشنطن وطهران، تبقى هناك مساحة للحوار والتفاهم، ومثال ذلك التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015 بين إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وإيران. ورغم أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تراجعت عن الاتفاق، وصعّدت ضد إيران من خلال اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، بقي احتمال الحرب في درجةٍ دنيا. وعلى هذا الأساس، يمكن قراءة سلسلة العمليات العسكرية التي قامت بها القوات الأميركية ضد حلفاء إيران في كل من سورية والعراق، في ردٍّ على العملية العسكرية ضد القاعدة الأميركية في الأراضي السورية، في 25 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، والتي سقط فيها ثلاثة قتلى بين الجنود الأميركيين، وأكثر من 30 جريحا.
يبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن لم تجد مفرّا من الرد بقوة، بعدما واجهت اتهامات من الداخل والخارج بأنها متهاونة تجاه إيران، التي تحرّك حلفاؤها في لبنان لتوجيه ضربات يومية لإسرائيل، وفي اليمن لتهديد أمن الملاحة في البحر الأحمر، ومهاجمة القواعد الأميركية في سورية والعراق. وكي لا يبدو ضعيفا، وهو على أبواب حملة الانتخابات الرئاسية، فقد قرّر بايدن أن يعطي للرد طابعا استعراضيا، يقتصر على العراق وسورية واليمن، والاستمرار ضمن معادلة عدم توسيع حرب إسرائيل على غزّة، وإبقاء إيران خارج مجال النيران، وضبط حلفائها تحت سقفٍ معيّن. ورغم تواتر العمليات العسكرية في جنوب لبنان والبحر الأحمر، لا يزال الوضع تحت السيطرة، ولم يتم خرق قواعد الاشتباك، بحيث تنتقل الأطراف من سياق العمليات التحذيرية والانتقامية إلى الردع ذي البعد التدميري. ومن المستبعد أن يتطوّر الموقف باتجاه ما يخالف ذلك، ويقود إلى مشاركة إيران، أو توجيه ضربات مباشرة لها داخل أراضيها. وفي الحسابات كافة، لن يتجاوز الموقف حافة الهاوية، إلى لحظة من الخطر تطيح كل ما جرى العمل به من قواعد اشتباك في السنوات الأخيرة. وعلى هذا، تحافظ طهران على توزيع مجال نفوذها، والاستثمار السياسي في المنطقة العربية بين اليمن ولبنان وسورية والعراق وفلسطين، وستظلّ سورية والعراق ساحة اشتباك إيراني أميركي لتنازع النفوذ.
الولايات المتحدة مهتمة بعدم توسيع الحرب، لكن العمليات التي تقوم بها ربما قادت إلى عكس ما تريد. وقد تتلقّى ردوداً تورّطها في النزاع، وهو أمرٌ تعمل إسرائيل عليه من أجل إشعال حربٍ واسعة، بعد عجزها عن تحقيق أهدافها في غزّة. وما لم تضغط واشنطن من أجل وقف إطلاق النار في غزّة، قد يصعب عليها تدارك الانزلاق نحو دورة من العنف تتحوّل إلى حربٍ واسعة، طالما أن الأطراف تحتفظ جميعها بحقّ الرد. ومن المرجّح أن ما يحصل من مناوشاتٍ في سورية والعراق لن ينتهي بمجرّد توقف الحرب على غزّة. ولذا يمكن للمعادلة أن تنقلب في حال عاد ترامب إلى الرئاسة، وهذا أمرٌ لا يبدو أن طهران غافلة عنه، وهي تأخذه في الحساب، ولذا تحاول تحقيق مزيد من المكاسب على حساب الولايات المتحدة، بما في ذلك بناء تفاهماتٍ مع بعض الخصوم التقليديين، مثل السعودية.