لا يزال الوضع في إقليم كردستان العراق غير مستقر بعد مرور شهر على الهجوم الصاروخي الإيراني، في وقت يقول فيه مراقبون إن طهران تستهدف سلطة عائلة بارزاني والحزب الديمقراطي الكردستاني باعتبارهما القوة المتبقية في العراق غير الخاضعة للنفوذ الإيراني.
ويتخوف الأكراد من هجمات جديدة تكون مفتعلة بأن يربط الإيرانيون أو المجموعات التابعة لهم في العراق استهداف مواقع في الإقليم بالهجمات الأميركية الأخيرة، مثلما افتعلوا هجوم الخامس عشر من يناير الماضي الذي أفضى إلى مقتل مدنيين بزعم وجود “أوكار تجسس إسرائيلية”.
وبادر القادة الأكراد إلى اتهام إيران بافتعال الهجوم، ما يظهر معرفتهم المسبقة بنواياها لاستهداف الإقليم الذي فشلت إلى حد الآن في أن تضع يدها عليه على خلاف بقية العراق الذي بات تحت قبضتها ومحكوما من حلفائها.
وقال الزعيم الكردي مسعود بارزاني عند استقباله السفيرة الأميركية لدى العراق ألينا رومانوسكي، بعد يومين من الهجوم الإيراني، إن “اعتداءات الحرس الثوري الإيراني كانت غير مبنية على أيّ أساس”، مشددا على أنها “لن تنجح في كسر إرادة شعب كردستان بل تجعلها أقوى وأرسخ”.ولاحقا ألغى رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني اجتماعا كان مقررا مع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، احتجاجا على الضربات الصاروخية الإيرانية على مدينة أربيل الواقعة في منطقة كردستان العراق.
واتهم مسرور بارزاني إيران بقتل مدنيين أبرياء، لافتا إلى أن الوقت الحالي ليس مناسبا لانسحاب القوات الأميركية من العراق، وهو أحد نقاط الخلاف مع طهران.
من جانبه، أكد رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني أنه “لا يوجد أيّ مبرر” لشن إيران هجمات ضد المنطقة خاصة أن الإقليم أعلن التزامه بالاتفاق الذي ينص على نزع سلاح المنظمات المعارضة لإيران في شمال العراق.
ويرى المراقبون أن نقاط الخلاف بين إيران وإقليم كردستان كثيرة، لكن أهمها أن الإقليم يرفض فتح أراضيه للمجموعات الموالية لإيران لتتحكم بكل شيء، وخاصة حقول النفط، التي تتيح للإقليم أن يحافظ على استقلاليته أمام الحكومة الاتحادية الواقعة تحت نفوذ أحزاب إيران.
وتتواصل الأسئلة حول ما إذا كانت الهجمات، التي تشنها إيران والجماعات العراقية التي تدعمها، ستستمر في استهداف المنطقة بدواعي وجود مراكز للتجسس وأنشطة إسرائيلية. كما يبقى مستقبل الوجود طويل الأمد للولايات المتحدة والتحالف الدولي في إقليم كردستان غامضا أيضا.
ففي 15 يناير، استهدف الحرس الثوري الإسلامي الإيراني منزلا مدنيا يقع على مشارف أربيل، عاصمة إقليم كردستان. وتسبب ذلك في مقتل رجل الأعمال الكردي البارز بشراو دزايي مع ابنته البالغة من العمر سنة واحدة، ورجل الأعمال العراقي البريطاني كرم سريدار، ومعينة منزلية فلبينية. وأصيب 17 آخرون في هذا الهجوم.
وقال الحرس الثوري الإيراني إنه استهدف “قاعدة تجسس إسرائيلية”، لكن الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان نفتا هذا الادعاء.
ويرى الصحافي الأميركي وينثروب رودجرز في مقال على موقع عرب دايجست أن مزاعم الحرس الثوري الإيراني المقدّمة دون دليل يدعمها تهدف إلى تشكيل الرأي العام والتلاعب به داخل إيران.
ومن المرجح أن يكمن هدف إيران عند مهاجمة أربيل في الضغط على الحزب الديمقراطي الكردستاني على مستوى السياسة العراقية الداخلية.
وشهد يوم 30 ديسمبر إطلاق مجموعة مجهولة لطائرة مسيرة على قاعدة للبيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني في بيرمام، وهي بلدة تقع شمال شرق أربيل يتواجد بها العديد من كبار أعضاء قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني كمسعود ومسرور بارزاني.
◙ تفضيل الأكراد لاستمرار الوجود العسكري الأميركي واضح، لكن من غير المضمون أن يمنحهم ذلك الأمن الذي يسعون إليه
ولم يتبن أيّ طرف هذا الهجوم مباشرة، ولكنه وقع ضمن عشرات الهجمات التي شنتها الجماعات المسلحة المدعومة من إيران على أهداف في إقليم كردستان.
يُذكر أن علاقات وثيقة كانت تجمع رجل الأعمال بشراو دزايي الذي قتل في 15 يناير مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. وكان مسؤولا عن بعض أبرز المشاريع التجارية في أربيل. ويبدو أن الهجومين كانا مصممين لإرسال رسالة إلى البارزانيين، دون إلحاق الضرر الجسدي بهما مباشرة.
ويوجد الكثير على المحك على الصعيدين المحلي والجيوسياسي. وتتعدد الخلافات بين بغداد وأربيل وتشمل السياسة النفطية والأراضي المتنازع عليها والموازنة الاتحادية. ويتبنى الحزب الديمقراطي الكردستاني مواقف طويلة الأمد بشأن هذه القضايا. ولن تغيرها الهجمات، لكنها تسلّط مزيدا من الضغط على الحزب لعقد صفقة مع بغداد.
وأثارت هجمات بيرمام والحرس الثوري الإيراني استياء الحزب الديمقراطي الكردستاني. وتشير خطاباته الحالية إلى أن قيادته تعمل على مقاومة ضغوط بغداد. ولا تزال إستراتيجية بارزاني على المدى الطويل غير واضحة بعد. وستعتمد من نواح كثيرة على السياق الأكبر.
والسؤال الأكبر على المستوى الجيوسياسي هو ما إذا كانت القوات الأميركية وقوات التحالف ستبقى في العراق وإقليم كردستان.
ويبقى الحزب الديمقراطي الكردستاني ومنافسه الاتحاد الوطني الكردستاني مؤيدين لوجود عسكري دولي قوي. لكن بعض الأحزاب داخل الحكومة المركزية التي يترأسها محمد شياع السوداني تضغط علنا لانسحاب القوات الأميركية اليوم قبل الغد.ولا يمارس إقليم كردستان سيادته على هذه القضية باعتباره منطقة تتمتع بحكم شبه ذاتي. لكن مواقف أحزابه السياسية الرئيسية تبقى مهمة.
ويلقى تذكير إقليم كردستان بنقاط ضعفه في هذا السياق رد فعل معقد. ويجعل انسحاب القوات الأميركية وقوات التحالف منه أكثر انكشافا من ناحية، وهذا يزيل نظريا من ناحية أخرى أسباب الهجمات ويشجع الأحزاب الكردية على البحث عن التسوية والأمن مع بغداد.
ويظهر التاريخ أن الأكراد يبقون عرضة للهجمات بغض النظر عن النظام الأمني القائم. ويعدّ تفضيل الأكراد لاستمرار الوجود العسكري الأميركي واضحا، لكن من غير المضمون أن يمنحهم ذلك الأمن الذي يسعون إليه أو يمكّن استمراره لفترة أطول.
وإثر هجوم 15 يناير، انطلقت واشنطن وبغداد في محادثات حول مستقبل القوات الأميركية في العراق. وتزامن هذا مع العديد من النقاشات في وسائل الإعلام الأميركية حول ما إذا كانت القوات الأميركية ستبقى في شمال شرق سوريا أيضا، وهي مهمة تعتمد على الوصول إلى القواعد في العراق.
وبينما قلل المسؤولون الأميركيون من أهمية المفاوضات بشأن قرار الانسحاب، كانت الأصوات العراقية أكثر قوة حيث تعتبر هذا هدف بغداد النهائي. ويستغرق هذا التحول الكبير وقتا. ولا توجد رغبة كبيرة، حتى بين السياسيين العراقيين الذين تربطهم علاقات وثيقة بإيران، في رؤية خروج متسرع لواشنطن.
وربما تريد إدارة جو بايدن أن تأخذ وقتها أيضا، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر والذكريات الحية للانسحاب الفوضوي من أفغانستان.
وأصبح الانسحاب من العراق أكثر صعوبة في 28 يناير، إثر مقتل ثلاثة جنود أميركيين وإصابة آخرين في هجوم بطائرة مسيرة على موقع عسكري بالأردن يحمل اسم “البرج 22”.