التقارب السوداني – الإيراني… رغبة ثنائية ومخاوف إقليمية

التقارب السوداني – الإيراني… رغبة ثنائية ومخاوف إقليمية

بعد إعلان الحكومة السودانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران، منهية قطيعة دبلوماسية بين البلدين استمرت نحو سبع سنوات، زار وزير الخارجية السوداني علي الصادق طهران في الخامس من فبراير (شباط) الجاري، إذ أجرى محادثات مع نظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان، الذي أكد أن إعادة فتح سفارات بلديهما تعد خطوة مهمة في تطوير التعاون المشترك بين البلدين.

والتقى الصادق بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي قدم دعوة إلى رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان، وعد استعادة العلاقات الدبلوماسية مع السودان “أساساً لتعويض الفرص الضائعة وخلق فرص جديدة”.

مرت عملية استعادة العلاقات بين البلدين بثلاث محطات سابقة الأولى لقاء وزير الخارجية السوداني علي الصادق، بنظيره الإيراني حسين أمير عبداللهيان على هامش اجتماع وزراء خارجية حركة عدم الانحياز في باكو، عاصمة جمهورية أذربيجان، في الـ 15 من يوليو (تموز) الماضي، وكتب عبداللهيان تغريدة في موقع “إكس” “استعرضنا الاستئناف الوشيك للعلاقات الدبلوماسية بين السودان وإيران، واطلعت على آخر التطورات الداخلية في هذا البلد”.

وشهدت فترة اندلاع الحرب السودانية إجلاء السعودية لعشرات المواطنين الإيرانيين من الخرطوم ضمن رعايا دول عدة.

أما المحطة الثانية فهي لقاء الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بالبرهان في الرياض على هامش الاجتماع المشترك لمنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والثالثة لقاء وزير الخارجية علي الصادق النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر على هامش قمة حركة عدم الانحياز، في العاصمة الأوغندية كمبالا في يناير (كانون الثاني) الماضي.

تحول العلاقات العسكرية

لم يكن السودان معروفاً لدى إيران إلا كمستعمرة بريطانية سابقة، وجزء من وادي النيل حيث كانت مصر تربطها بالشاه علاقة قوية وتوطدت أسرياً بعد زواج شقيقة الملك فاروق (فوزية) من ولي العهد الإيراني آنذاك محمد رضا بهلوي عام 1939.

وبعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وانهيار حكم الشاه، ترك ذلك آثاراً في المنطقة العربية وفي مصر بعهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات التي رفضت حكم آية الله الخميني، واستقبلت الشاه ووفرت له الدعم والحماية حتى وفاته عام 1980، ثم قطعت العلاقات مع طهران، ودعمت مصر في عهد الراحل محمد حسني مبارك العراق في حربه مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي.

ومن جانب السودان، أرسل الرئيس الأسبق جعفر النميري قوات سودانية لتحارب مع صدام حسين ضد إيران، وبعد سقوط النميري، حدث تقارب بين حكومة الصادق المهدي والنظام الإيراني ولكن قصر فترة حكمه لم تتح للعلاقات أن تثمر عن تعاون ملموس.

بعد الانقلاب الذي نفذته الحركة الإسلامية السودانية عام 1989 بدأت مرحلة جديدة، وسرعان ما شهدت الدولة التي أنهكتها الحرب الأهلية في جنوب السودان تحولاً في العلاقات العسكرية والدفاعية، وفي عام 2006 قال آية الله خامنئي للرئيس السوداني عمر البشير إن “طهران مستعدة لنقل هذه الخبرة والتكنولوجيا والمعرفة لدى علمائها النوويين إلى الدول الصديقة الأخرى”، وفي المقابل أيد البشير تخصيب إيران اليورانيوم وعده انتصاراً كبيراً للعالم الإسلامي ودعم حقها في البرنامج النووي.

وكشف الباحث في المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب إيلي كارمون عن أن “إيران أرسلت الأسلحة وإمدادات النفط ونحو ألفي مستشار من الحرس الثوري الإيراني لتدريب الجيش السوداني، وبعد أربع سنوات قدمت طهران للخرطوم دعماً عسكرياً عبارة عن سيارات مدرعة ومدفعية ثقيلة ومعدات الرادار”.

وأوضح كارمون أن “التنظيم والعقيدة الكاملة لقوات الدفاع الشعبي السودانية التي أنشأها النظام الإسلامي في عهد البشير للقتال إلى جانب الجيش تستند إلى مفهوم التعبئة الشعبية لقوات البسيج التابعة للحرس الثوري الإيراني”.

طابع مميز

اتسمت العلاقات السودانية – الإيرانية بطابع مميز وليس بالضرورة متفوقاً على بقية علاقات إيران بالدول العربية والأفريقية الأخرى، ويعود ذلك لعدد من العوامل التي أثرت في أبعاد العلاقة على مستويات عدة، وعلى درجة التعاون بينهما، فيما بدا أن للبعدين العسكري والاقتصادي أهمية خاصة ضمن هذه العوامل طبقاً لمؤشرات متعلقة باستخدام البعد الثقافي في ظل النظام السابق كرابط عاطفي للتعاون.

أصبحت السياسة السودانية واقعة تحت تأثير التفاعلات الخاصة بأزمة إيران على المستوى الدولي والإقليمي، خصوصاً بالسياسة التي تعتمدها الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، والدول الإقليمية من جهة أخرى، وهو ما يجعل اتجاهات العلاقة محل تساؤل ما إن كانت ستخضع للتناقض بين العلاقات البينية في ظروف الحرب السودانية والصراع في قطاع غزة، وبين تأثر الموقف الإيراني بالبيئة الدولية المحيطة بهذه العلاقات واتجاهها نحو التطور.

وتحرك الحكومة السودانية متمثلة في قيادة الجيش ينبع من الحاجة الحالية إلى التعاون والدعم السياسي والعسكري والاقتصادي، أما من ناحية إيران، فإن وجود سفارة إيرانية في بورتسودان، يعني كثيراً بالنسبة إليها، إذ تعد مدينة بورتسودان مركزاً مهماً على ساحل البحر الأحمر، الذي يمتد على مسافة تقدر بنحو 640 كيلومتراً، حيث تتنافس دول مثل الصين وروسيا وتركيا للوصول إليه، إضافة إلى العامل الاستراتيجي الذي سيمكن إيران من الحصول على موطئ قدم في البحر الأحمر.

محور أفريقيا

يشكل التعاون مع البلدان الأفريقية أولوية في السياسة الخارجية الإيرانية على خلفية الضغوط التي يمارسها الغرب لتقويض التقدم الإيراني، ومن السودان يمكن لإيران أن تتحرك نحو الأسواق الأفريقية، وخلال زيارته إلى الخرطوم عام 2008 قال وزير الدفاع الإيراني مصطفى محمد نجار، في حكومة محمود أحمدي نجاد “السودان هو محور العلاقات الإيرانية – الأفريقية، وتوسيع العلاقات مع الدول الأفريقية يكون من الخرطوم”. في ذلك الوقت كانت الخرطوم وطهران تنطلقان من علاقات دينية وثقافية ووحدة فهم مشترك من القضايا الإقليمية والدولية، وتخضعان لعقوبات اقتصادية أميركية باعتبارهما “راعيتين للإرهاب”.

وفي زيارته الأخيرة إلى طهران، ركز وزير الخارجية السوداني علي الصادق على التعاون العسكري، وأشير إلى أنه نقل حاجة السودان إلى عناصر لتدريب القوات المسلحة السودانية ومساعدتها في القضاء على قوات “الدعم السريع”، لا سيما أن إيران مجهزة تجهيزاً جيداً بالقدرات الصناعية والهندسية العسكرية التي يحتاج إليها السودان بشكل عاجل، كما أنها تعمل منذ عقود على ذلك، وخطت خطوات واسعة نحو التطور العسكري.
كان أول مجمع للأسلحة بالسودان هو مجمع الشجرة الصناعي الذي تم تأسيسه عام 1960 بعون صيني، وفي عام 1993 ضم المجمع إلى هيئة التصنيع الحربي التي أسستها الحكومة بمساعدة إيران والصين، ومنها مصانع للأسلحة والمنشآت العسكرية، مثل مجمع اليرموك الصناعي جنوب الخرطوم عام 1994 ومجمع الزرقاء الهندسي عام 1999في الخرطوم بحري، وكذلك مجمع إبراهيم شمس الدين عام 2002 في مدينة جياد الصناعية بمنطقة المسعودية جنوب الخرطوم، ومجمع صافات للطيران في عام 2005 بمنطقة وادي سيدنا بأم درمان التي تضم أيضاً قاعدة عسكرية.

حزام اليورانيوم

مع أن العامل العسكري يعد حجر الزاوية في التوجه الإيراني التقليدي والجديد نحو السودان، لكن يلعب العامل الاقتصادي أيضاً دوراً مهماً إذ يمثل السودان أحد المراكز الأفريقية لبروز ظاهرة تنافس القوى الدولية لتوسيع أسواقها والبحث عن الموارد الأولية.

وتنظر إيران باتجاه استئناف التعاون السابق في مجال الصناعات والخدمات الهندسية والاستثمار النفطي، إذ أجبر التهديد بفرض عقوبات جديدة على صادرات النفط الإيرانية طهران على تنويع مواردها النفطية، والصادرات لتشمل الاقتصادات النامية في أفريقيا، وعملت إيران في وقت سابق على تصدير سيارات الأجرة إلى السودان والسنغال، مما يساعد في تحمل كلفة صناعة السيارات الداخلية في إيران، مما يسهم أيضاً في تنويع أشكال أخرى من التعاون الاقتصادي والدبلوماسي والأمني مع القارة.

ووعدت إيران ببناء بنية تحتية للطاقة في عدد من البلدان الأفريقية ومنها السودان، ومنها تجديد المصافي النفطية، والمساعدة في بناء محطات توليد الطاقة، والتكنولوجيا النووية المدنية.

تركز إيران على بناء حزام من الدول الغنية باليورانيوم، كما تنشط من خلال وكلائها الإقليميين “حزب الله” المنتشر في أفريقيا في تجارة الماس في سيراليون وليبريا والكونغو الديمقراطية وبنين، ويمكن أن يسهم عدم الاستقرار واستمرار الحرب في أن توفر بيئة للتعامل مع المهربين.

وهناك حادثة شبيهة سجلتها الأمم المتحدة عام 2009 ذكرت أن إيران ضربت صاروخاً للتعامل مع المتمردين الصوماليين، إذ كانت على وشك تسليم أسلحة معينة لهم لتمكين الوصول إلى احتياطيات اليورانيوم في المناطق الصومالية الخاضعة لسيطرتهم.

ونسبة إلى موقع السودان يمكن لإيران أن تعمل على تشبيك علاقاتها بدول أفريقية مختلفة بتعاون عسكري أو اقتصادي أو رباط شيعي، وجرب السودان انسجام الحركة الإسلامية مع أيديولوجية النظام الإيراني، كما حدث أوان نظام الترابي – البشير، وقبل ذلك حينما أسس “حزب الله النيجيري” وزعيمه إبراهيم الزكزاكي، الذي تنشط حركته في ولايات شمال نيجيريا مثل كانو وكادونا وزاريا.

مواجهة إسرائيل

عندما التقى البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في العاصمة الأوغندية عنتيبي عام 2020، قال إن “بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية”، مع تأكيده على “موقف السودان المبدئي من القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في إنشاء دولتهم، ظل وما زال وسيستمر ثابتاً، وفق الإجماع العربي ومقررات الجامعة العربية”.

واطلع نتنياهو وزير الخارجية الأميركي وقتها مايك بومبيو على موقف السودان، وأن البرهان يحاول إخراج السودان من عزلته، فيما بدا أن مجلس الوزراء الانتقالي بقيادة عبدالله حمدوك كان يريد التحرك باسم المدنيين، وعد الخطوة استباقية من جهة العسكر.

وتعددت اللقاءات بين المسؤولين السودانيين والإسرائيليين، منها زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي السابق إيلي كوهين إلى الخرطوم في فبراير العام الماضي وتسليم البرهان مسودة اتفاق سلام مع السودان كان متوقعاً التوقيع عليها خلال العام الماضي.

ومنذ الإجراءات التي فرضها الفريق البرهان في عام 2021، أحرز السودان تقدماً تدريجاً في تحسين علاقات البلاد مع إيران وإسرائيل معاً. عندما قدم عبداللهيان تقريراً لوزير الخارجية السوداني، عن عملية التطورات الداخلية في السودان، أشار إلى ما سماه “’مؤامرات‘ إسرائيل لاستمرار الحرب والأزمة الداخلية في السودان”، وأكد “الموقف المبدئي لحكومة وشعب إيران تجاه قضية فلسطين وإدانة العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وخصوصاً في غزة”.

ولكن يبدو أن إيران عازمة على مواجهة الأنشطة الدبلوماسية بين إسرائيل والسودان، كما أن تل أبيب بدورها ترى أن استعادة العلاقات بين الخرطوم وطهران، تمهيد لإرسال شحنات أسلحة من إيران عن طريق السودان لحركة “حماس”، وتستند إلى أحداث سابقة حينما ساعد النظام السابق الحركة بتمرير أسلحة إيرانية عن طريق بورتسودان عام 2011 ، وتعرضت على إثره بورتسودان إلى قصف صاروخي إسرائيلي.

وفي عام 2014 اتهمت إسرائيل السودان بتصنيع أسلحة لصالح إيران مدت بها “حماس” واستخدمتها في صراعها في قطاع غزة، كما كشفت الأمم المتحدة عن إرسال إيران أسلحة إلى الحركة عن طريق بورتسودان عام 2016.

تخشى إسرائيل أن تهيئ ظروف الحرب والتجنيد العشوائي في السودان بيئة ملائمة لتجنيد الشباب السودانيين ومن دول الجوار لصالح الميليشيات الإيرانية في المنطقة، وذلك من واقع ممارسات سابقة للنظام الإيراني بالاستثمار في الدول التي تشهد اضطرابات سياسية وعسكرية، إضافة إلى أن النظام السابق سمح من للنفوذ الإيراني بأن يتمدد على الأراضي السودانية.

حجم التأثير

اعتمدت العلاقات بين السودان وإيران على مسار تاريخي أظهرت مؤشراته وجود توافق وتعاون بين الدولتين على رغم اختلاف الرؤى، ومسار حديث أظهر وجود مصالح متبادلة، وإن كانت الصفة الغالبة على المصالح الإيرانية هي مشروعها التوسعي الذي تخدمه الصفة الأيديولوجية ورغبتها في فرض هيمنتها، فإن السودان في ظل النزاع الحالي بحاجة إلى مشروع تحكمه المصالح العسكرية لحسم النزاع لصالح الجيش ضد “قوات الدعم السريع”.

لذلك جاءت إفادة وزير الخارجية السوداني لتجمع دبلوماسي في بورتسودان بعد زيارته إلى طهران بأن علاقات السودان مع إيران “ليست موجهة ضد أية دولة أو مجموعة دول، ولا ضد نظام إقليمي أو دولي قائم في المنطقة، وبالتالي ينظر إليها على أنها شيء طبيعي وعادي في العلاقات بين الدول واستئناف لتعاون سابق طويل في المجالات الاقتصادية ومجالات التنمية والاستثمار بين البلدين”.

من هذه النقطة، يشير الصادق إلى أن علاقات بلاده مع إيران قد تمضي قدماً بموازاة علاقاتها مع إسرائيل وليس ضدها، كما أنها تحاول امتصاص رد الفعل الأميركي، من منطلق حجم التأثير الذي تتركه هذه الخطوة لدى القوى الدولية كونها المحرك والفاعل الأساسي للسياسات الدولية والمؤثر في السياسات الإقليمية خصوصاً مع التوتر الذي تمر به المنطقة.