مع اقتراب موعد إجراء انتخابات الدورة الثانية عشرة لمجلس الشورى الإيرانية (البرلمان)، وانتخابات الدورة السادسة لمجلس خبراء القيادة، المزمع عقدها في الوقت نفسه في مطلع الشهر المقبل (مارس/ آذار)، ومع التوقعات بعدم إقبال الناخبين على المشاركة في هذه الانتخابات، أسوةً بالانتخابات البرلمانية والرئاسية أخيراً، يبدو أن سلطات النظام الإيراني أتمت، كعادتها، إجراءاتها لهندسة المشهد الانتخابي في خطوةٍ منها لإعادة إضفاء نوعٍ من الشرعية الشعبية على النظام الذي فقد في السنوات الماضية الكثير من شرعيته.
تظهر القراءة التحليلية لإجراءات سلطات النظام الإيراني المنظّمة للانتخابات البرلمانية، وكذلك انتخابات مجلس خبراء القيادة، وجود توجّه واضح وقوي لدى مؤسّسة النظام القائمة على تحالفاتٍ بين المرشد الأعلى وشخصياتٍ عديدة محافظة متشدّدة والمؤسّسة العسكرية والأمنية، نحو إبقاء هيمنة التيار المحافظ على جميع منابر السلطة، بهدف توحيد التوجّه السياسي للسلطات، وإشاعة حالةٍ من الانسجام، بعد ترسيخ التيار المحافظ المتشدّد مرجعية موحّدة لإدارة البلاد، ومواجهة تحدّيات المرحلة المقبلة، حفاظاً على ما تسمّى مفاهيم “الثورة” وديمومة النظام السياسي، خصوصاً وأنّ هذه الانتخابات تكتسب أهميتها من ناحيتين: أنها الأولى بعد احتجاجات سبتمبر/ أيلول 2022، والتي رفعت شعاراتٍ استهدفت المرشد خامنئي والنظام الإيراني كله، على خلفية مقتل الشابّة الكردية مهسا أميني على يد قوات الشرطة الإيرانية. وأنها تؤسّس من خلال انتخاب مجلس خبراء القيادة الذي يعد الهيئة الحكومية المسؤولة عن انتخاب المرشد الأعلى للبلاد، لمرحلة جديدة عنوانها الأهم خليفة جديد للمرشد علي خامنئي (84 عاماً) كـ “قائد” و”ولي فقيه”.
لذلك، ليس من باب التكهّن القول إنّ الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس خبراء القيادة محسومة لمصلحة المتشدّدين الأكثر ولاءً للنظام الحاكم، فاستبعاد مجلس صيانة الدستور كل مصادر الخطر التي تهدّد المسار أو الخطّة التي وضعتها هذه المنظومة لإيصال الأشخاص الأكثر ولاءً للنظام ومؤسّساته، سواء في مجلس الشورى أو في مجلس قيادة الخبراء، يدل على ذلك، فالمُقدّمات لا بد أن تكون دالّة على النتائج كما يُقال، وهذا ما اتضح بشكلٍ جليٍ من خلال اعتماد مجلس صيانة الدستور على آلية جديدة لهندسة المشهد الانتخابي، قامت على توسيع قاعدة المرشّحين بعد خضوعهم لعملية غربلة واختيار دقيق، بحيث ضمّت القائمة النهائية 15 ألف مرشّح سيتنافسون على 290 مقعداً، أغلبها من شخصيات النظام الأساسية، أو من التي ما زالت في دائرة الولاء للمنظومة، وتعدّ جزءاً منها، مقابل إسقاط أهلية عديدين من المرشّحين البارزين المحسوبين على التياريْن، الإصلاحي والمعتدل، مع إبقاء بعض الشخصيات الثانوية المحسوبة على القوى الإصلاحية، والتي لا تمتلك القوة التمثيلية أو القدرة على التعبير عن المشروع الإصلاحي، بالشكل الذي يجعل منها مصدر خطرٍ أو قلق للنظام.
تسعى مؤسسات النظام الإيراني لهندسة الانتخابات المقبلة بطريقةٍ تضمن لها توحيد توجّه السلطات الحاكمة في إيران
تكشف هذه الإجراءات من جانبها عن رؤية مؤسّسة النظام لمستقبل السلطات في البلاد وطبيعتها، وسعيها إلى محاولة فرض أعضاء برلمان، وكذلك أعضاء مجلس خبراء القيادة من ذوي التوجّهات المتشدّدة، على اعتبار أنّ الدورة الجديدة في مجلس الخبراء الممتدة ثماني سنوات ستشهد حكماً اختيار مرشد جديد خلفاً لخامنئي الكبير في السن والمصاب بسرطان البروستاتا. لهذا لم تشهد إجراءات مجلس صيانة الدستور استبعاد ممثلي الصفّين، الأول والثاني، من التيار الإصلاحي فحسب، وإنّما شهدت أيضاً استبعاد بعض ممثلي التيار المعتدل الذي كان قريباً من الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، وكذلك بعض ممثلي التيار الأصولي المعتدل، الذي يقوده علي لاريجاني، وكذلك ممثلي التيار الأصولي – الشعبوي الذي يمثله الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، أي أن مؤسّسة النظام ليست في وارد السماح لأي طرفٍ داخلي بأن يعرقل هذا المسار الذي رسمته وتعمل على تنفيذه، والذي يهدف إلى ضمان عدم وجود أي شيءٍ يعرقل استراتيجية خامنئي الحالية المدفوعة، في المقام الأول، باعتبارات تتعلّق بابنه مجتبى خليفة له في منصب المرشد الأعلى في إيران.
بناءً على ما سبق، يرى محلّلون وكتّاب أنّ الانتخابات المقبلة في إيران لن تكون مجرّد انتخابات لاختيار أعضاء مجلسي الشورى وقيادة الخبراء، بل هي محاولة لإعادة إنتاج شرعيّة النظام الثورية، والحفاظ على النظام السياسي وهويّته، خصوصاً في هذه المرحلة التي يمرّ بها النظام السياسي في إيران، لذلك نرى سعياً حثيثاً من مؤسّسات النظام الإيراني لهندسة هذه الانتخابات بطريقةٍ تضمن لها توحيد توجّه السلطات الحاكمة في إيران وإيجاد انسجام في صفوفها يخفّف حالة التضادّ بينها، ويهيئ الأرضية لمجتبى خامنئي كـ “الولي الفقيه” الجديد، والذي سيعمل على تعزيز الأسس العقائدية والسياسية للنظام الإيراني، والمحافظة على استمرار النظام الثيوقراطي الحاكم أطول فترة ممكنة.