ليست الحرب المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط، وقطاع غزّة بؤرتها الرئيسية، أولى جولات الصراع المسلّح بين العرب والكيان الصهيوني، ولن تكون آخرها، فمنذ إعلان قيام الكيان الصهيوني في 14 مايو/ أيار عام 1948، خاض العرب في مواجهته عشرات الجولات القتالية. أولاها دارت على الساحة الفلسطينية في 1948، ثم انتقلت المواجهة إلى الساحة المصرية في 1956، ثم اتسعت المواجهة لتشمل في 1967 ثلاث ساحات في الوقت نفسه، مصرية وسورية وأردنية، قبل أن تتقلص مرة أخرى لتقتصر على الساحتين المصرية والسورية في حرب 1973، والتي أصبحت آخر الحروب التي تشارك فيها جيوش عربية نظامية. بعد ذلك، انتقلت المواجهات المسلحة إلى أيدي فصائل المقاومة، وأصبح لبنان الساحة التي دارت فوقها معظم الجولات القتالية من 1978 إلى 2006، وذلك قبل أن تنتقل إلى قطاع غزّة الذي دارت فوق ساحته كل جولات القتال من 2008 إلى 2023. أما الجولة الحالية، والتي بدأت مع انطلاق عملية طوفان الأقصى في 7/10/2023 ودارت رحاها فوق الأرض الفلسطينية المحتلة في 48 قبل أن ينتقل رحاها في اليوم التالي إلى قطاع غزّة، فيمكن القول إنها تختلف نوعيّاً عن كل ما سبقها من جولات، سواء من حيث الدوافع التي تسبّبت في اندلاعها، أو من حيث نوعية الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة فيها وعددها، أو من حيث الفترة التي استغرقتها، أو من حيث النتائج السياسية والعسكرية التي تمخّضت أو قد تتمخّض عنها في المستقبل.
في وسع كلّ متأملٍ لتاريخ الصراع المسلح بين العرب وإسرائيل أن يستخلص مجموعة كبيرة من الحقائق، يمكن عرض أهمها على النحو التالي: الأولى: تتعلّق بضرورة التمييز بين مرحلتيْن مختلفتين نوعيا، من حيث طبيعة القوى المشاركة فيها على الأقل. تشمل الأولى الفترة بين عامي 1948 و1973. وتشمل الثانية الفترة من نهاية حرب 1973 وحتى اليوم. ففي الأولى، اقتصرت جولات الصراع المسلّح على جيوش نظامية تابعة لدول اختلف عدُدها من جولةٍ إلى أخرى، وانتهت بهزائم عسكرية أو سياسية كانت لها نتائج وخيمة، ليس على مسار الصراع فحسب، وإنما أيضاً على مجمل الأوضاع السائدة في المنطقة، فحرب 48 مكّنت إسرائيل من احتلال مساحة تزيد بنسبة 50% عن المساحة المقرّرة للدولة اليهودية في مشروع تقسيم فلسطين لعام 1947. ورغم توقيع إسرائيل على اتفاقيات منفصلة للهدنة في نهاية هذه الحرب، إلا أن ذلك لم يحُل دون حرصها على مواصلة التوسّع، وهو ما جرى باحتلال قرية أم الرشراش المصرية (إيلات في ما بعد)، ثم بضم ما يقرب من مائتي كم مربع من المساحة المخصّصة لقطاع غزّة في اتفاقية الهدنة الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1949. وبعد حرب 1956، أصبح بمقدور السفن الإسرائيلية المرور عبر مضيق باب المندب، وهو ما لم يكن متاحا لها من قبل. وفي حرب 1967، تمكّنت إسرائيل من استكمال احتلالها ما تبقّى من فلسطين التاريخية، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية. ورغم الانتصار العسكري الذي حقّقه الجيشان المصري والسوري في بداية حرب 1973، إلا أن مصر لم تتمكن من استعادة سيناء إلا منقوصة السيادة، وبعد التوقيع على معاهدة سلام منفصل مع إسرائيل عام 1979. ولا تزال هضبة الجولان السورية محتلة، وعجزت سورية عن تحريرها. وفي المرحلة الثانية: وهي منذ ما بعد حرب 1973، اقتصرت جولات القتال التي اندلعت خلالها على فصائل المقاومة المسلّحة وحدها، وهي فصائل مستقلة لا تخضع للأنظمة العربية الرسمية، ولم تستطع إسرائيل خلال أيٍّ من هذه المواجهات فرض إرادتها على فصائل المقاومة التي خرجت منها أقوى مما كانت عليه.
أهم ما يميز الجولة الراهنة من الصراع المسلّح مع إسرائيل أنها أعادت القضية الفلسطينية، وبشكل نهائي لا رجعة فيه، إلى الشعب الفلسطيني
الحقيقة الثانية: تتعلق بالمسار الذي سلكه الصراع بين العرب وإسرائيل. ففي تقديري أن هذا المسار شهد نقطة تحول رئيسية، حين قرّرت إسرائيل اجتياح بيروت عام 1982، وأصرّت ليس على إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان فحسب، وإنما أيضا على فرض معاهدة سلام بالقوة على هذا البلد العربي، فقد تبيّن في هذه اللحظة تحديداً، وبما لا يدع مجالا لأي شك، أن إسرائيل تسعى إلى الهيمنة على العالم العربي، وليست مهتمّة بالبحث عن تسوية حقيقية ومتوازنة للقضية الفلسطينية، وهو ما يفسّر ولادة حزب الله الذي تولى قيادة المقاومة اللبنانية المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وراح يواصل الطريق، إلى أن تمكّن عام 2000، من إلحاق هزيمة كاملة بالقوات المحتلة وتحرير جنوب لبنان من دون قيد أو شرط، وهو ما لم يحدُث في أي مواجهة سابقة مع الاحتلال. ولأن هذا الانتصار تحقق في لحظةٍ كانت فيها “مفاوضات السلام” بين منظمة التحرير وإسرائيل، المتواصلة منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993، تحتضر، فقد كان من الطبيعي أن تكون لهذا الإنجاز الكبير تداعياته الملهمة على الساحة الفلسطينية. وليس من المبالغة القول إن هذا الإنجاز عمّق قناعة الشعب الفلسطيني بأن أرضه المحتلة لن تتحرّر إلا عبر المقاومة المسلحة، وليس عبر مساومات سياسية لا تنتهي في ظل موازين قوة مختلة.
الحقيقة الثالثة: تتعلق بموقع الجولة الحالية من القتال على خريطة الصراع العربي الإسرائيلي الممتدّ نحو قرن، وبتأثيراتها المحتملة على مسار هذا الصراع في المستقبل، ففي هذه الجولة تمكّن فصيل فلسطيني بعينه، ولأول مرّة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، من أخذ زمام المبادرة بيده والإقدام على اقتحام الأرض الفلسطينية المحتلة قبل 1948، عبر هجوم كاسح جرى شنّه على العدو الصهيوني اعتمادا على قدراته وإمكاناته الذاتية وحدها، تخطيطاً وتنفيذاً ومتابعة، ما أجبر كل الأطراف العربية والإقليمية والعالمية المعنيّة على الكشف عن مواقفها الحقيقية. وهنا ينبغي أن نميز بين ما جرى يوم 7 أكتوبر نفسه، والذي كانت محصّلته تمكّن “حماس” من تحقيق انتصار حاسم عبر إلحاق هزيمة ساحقة وخاطفة للكيان الصهيوني، وما جرى بعد ذلك من ردود فعل إسرائيلية وفلسطينية وعربية وإقليمية ودولية، وهي ردود ما زالت تتفاعل بشدة، لكن محصلتها الإجمالية تشير إلى: أولا، قدرة المقاومة الفلسطينية المسلحة على مواصلة القتال وإلحاق خسائر فادحة ومؤلمة بالجيش الإسرائيلي رغم مرور ما يقرب من خمسة أشهر على بداية هذه الجولة. ثانيا، انكشاف وحشية الجيش الإسرائيلي الذي قرر الانتقام من المدنيين وارتكاب أعمال إبادة جماعية دفعت جنوب أفريقيا إلى رفع قضية أمام محكمة العدل الدولية. ثالثا، تعرية الموقف الأميركي والغربي المنحاز لإسرائيل بشكل مطلق وأعمى وغير مسبوق. رابعا، الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، وإصراره على التمسّك بأرضه ورفض كل المحاولات الرامية لترحيله منها قسرا. خامسا، عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة جدول أعمال النظام الدولي وتصاعد تعاطف الرأي العام العالمي معها بشكلٍ غير مسبوق.
تمكّن فصيل فلسطيني بعينه، ولأول مرّة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، من أخذ زمام المبادرة بيده والإقدام على اقتحام الأرض المحتلة قبل 48
من السابق لأوانه تحديد الكيفية التي ستنتهي بها هذه الجولة من القتال، وهي الأطول والأكثر إيلاما لإسرائيل في تاريخ صراعها مع العرب، أو حصر نتائجها النهائية، خصوصاً على الصعيدين الاستراتيجي والجيوسياسي، فما زالت حركة حماس تحتفظ بعشرات الأسرى الإسرائيليين، وتصرّ على تبادلهم بجميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، ولكن بعد وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع ورفع الحصار والبدء في إعادة الإعمار، غير أن نتنياهو يرى في هذه المواقف شروطا تعجيزية تهدف إلى إجبار إسرائيل على الاعتراف بالهزيمة، وهو ما يرفضه كليا. ولأنه يعتقد أنه ما زال في مقدوره تحقيق انتصار عسكري حاسم، ويملك ورقة ضغط قوية، التهديد باجتياح رفح التي يتكدّس فيها ما يقرب من مليون ونصف المليون فلسطيني، يرفض نتنياهو وقف إطلاق النار، ويقترح بدلا من ذلك هدنة إنسانية طويلة المدى نسبيا، لتبادل الأسرى وتخفيف المعاناة الإنسانية على الفلسطينيين المحاصرين في القطاع، على أمل أن يتمكن بعد ذلك من استئناف القتال لتحقيق هدفه الأسمى، تدمير “حماس” وإخراجها كليا من المعادلة، ويبدو أنه يراهن على إمكانية أن تمارس بعض الأنظمة العربية التي تدور في الفلك الأميركي ضغوطاً على “حماس” لإجبارها على تليين موقفها بدعوى “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، غير أنني أعتقد أن “حماس” لن ترضخ لمثل هذه الضغوط، وبالتالي ما لم تقبل إسرائيل بحل وسط يستجيب للحد الأدنى من المطالب الفلسطينية المشروعة، وبما يكفي للسماح للمقاومة المسلحة بالخروج من هذه الجولة من القتال مرفوعة الرأس وحماية الانتصار الذي حققته يوم 7 أكتوبر، فسوف تنزلق الجولة الراهنة حتما إلى مواجهة إقليمية شاملة، قد تغيّر وجه المنطقة كليا.
أهم ما يميز الجولة الراهنة من الصراع المسلّح مع إسرائيل أنها أعادت القضية الفلسطينية، وبشكل نهائي لا رجعة فيه، إلى الشعب الفلسطيني، صاحبها الأصلي والوحيد، بعد مرحلة طويلة من التيه والعبث بمصير هذه القضية، وذلك مكسبٌ ضخمٌ لا يجوز التقليل من شأنه أبداً.