مرّة أخرى، تسجّل أنقرة حضوراً لافتاً وقوياً في القرن الأفريقي، بتوقيعها في الـ8 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط) اتفاقية عسكرية – اقتصادية مع الصومال، الذي تعتبره جسر عبورها إلى عمق أفريقيا، ذلك بفضل موقعه الجغرافي الاستراتيجي المطلّ على خليج عدن في البحر الأحمر والمحيط الهندي بشريط ساحلي من جيبوتي إلى كينيا يمتد إلى أكثر من 333 ألف كيلومتر، ما يتيح لتركيا الوجود في قلب أهم الممرّات العالمية، في خضمّ استفحال التوترات في خليج عدن بسبب هجمات الحوثيين على السفن المحمّلة بالبضائع المتجهة إلى إسرائيل، واحتمال تزايد نشاط القراصنة. كما أن بإمكان أنقرة التعاون الاقتصادي مع مقديشو، بموجب هذه الاتفاقية التي كُلّلت أيضاً بتوقيع اتفاقية التنقيب عن آبار النفط في أقاليم جلمدغ وجنوب غربي الصومال بين وزارتي النفط التركية والصومالية في مطلع مارس/آذار الجاري، ما يجعل الصومال مستقبلاً عضواً في الدول المنتجة للنفط وبكميات ضخمة، تحوّله لاعباً جديداً في أسواق النفط العالمية. تلك الاستدارة التركية نحو الصومال، وبكامل ثقلها السياسي والعسكري، لتمكين الجيش الصومالي من القضاء على حركة الشباب في غضون عامين، تثير مخاوف إقليمية ودولية، ليس حسرة على انتشال هذا القطر العربي من نفق أزماته الموحشة، بل خشية من تنامي النفوذ التركي في هذه المنطقة، حتى بعد موجات التطبيع التركية مع دول عربية عدة في العامين الأخيرين.
تمتاز سياسة الخارجية التركية نحو أفريقيا بالديمومة والاستمرارية، وتربطها علاقات دبلوماسية مع 49 دولة من أصل 54
لا يمكن أن نستحضر الانعطافة التركية راهناً نحو الصومال من دون العودة إلى ما مرَّ به هذا البلد من حالة طرفية أمنية وسياسية معقّدة عكست بنتائجها الكارثية على سكانه، يقتاتهم الجوع والويلات الإنسانية منذ نحو ثلاثة عقود، من دون أن تجد الدول العربية الشقيقة حلاً جذرياً لأزماته سوى إصدار بيانات شجبٍ أو التعبير عن القلق إزاء التدخّلات الإقليمية والعبث بمقدّراته ومصيره. لكن فرامل انزلاقه أكثر إلى غياهب المعضلة الإنسانية توقّفت أخيراً مع توجّه تركيا نحو الصومال، باعتباره عمقها الاستراتيجي، وأحد البوابات الرئيسية للتوسّع في أفريقيا. فزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الصومال مرتين (عامي 2011 و2016)، حملت دلالات عدة وعزّزت من الحضور التركي في المنطقة، لكن ما يرفع سقف التعاون الأمني والاقتصادي ما تضمّنته الاتفاقية الإطارية من بنود مهمة، لعل أبرزها حماية السواحل الصومالية من الاعتداءات الخارجية ومكافحة التلوث البيئي ونشاط القراصنة، في مقابل تخصيص 30% لأنقرة من العائدات المالية المتوقع جنيها من الاقتصاد الأزرق، ضمن استراتيجية الصومال للاستفادة من ثرواته في المحيط الهندي والبحر الأحمر، تحديداً الثروة النفطية والسمكية.
تمتاز سياسة الخارجية التركية نحو أفريقيا بالديمومة والاستمرارية، وتربطها علاقات دبلوماسية مع 49 دولة من أصل 54، ولديها استثمارات ضخمة في كل من الصومال وإثيوبيا، ويقدّر حجم استثماراتها بأكثر من ملياري دولار، وتدير 20 شركة تركية مشاريع استثمارية في إثيوبيا التي تشغل قرابة 20 ألف إثيوبي، هذا إلى جانب امتيازاتها الاقتصادية في الصومال بإدارة شركاتها مطار مقديشو (2015) وميناء مقديشو (2016)، وهما أهم رافدين اقتصاديين يعزّزان مداخيل الحكومة الفيدرالية بنحو 60%، إلى جانب إشراف 300 ضابط تركي على التدريبات العسكرية في القاعدة العسكرية التركية بمقديشو (افتتحت عام 2017) والتي تخرّج سنوياً قرابة عشرة آلاف جندي. ونظراً إلى هذا الوجود التركي في كل من البلدين، تقتضي الضرورة أن تلعب أنقرة دوراً محورياً في التوفيق والوساطة بين الجارتين ومنع انزلاقهما إلى حربٍ لا هوادة فيها تأكل الأخضر واليابس، على الرغم من أن رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، كرّر أكثر من مرّة أنه لا ينوي خوض حربٍ مع الصومال، بينما أكّد رئيس الحكومة الفيدرالية حمزة عبدي بري أنّ بلاده تمارس أقصى درجات ضبط النفس إزاء مذكّرة التفاهم بين صومالي لاند وإثيوبيا، وأن السلام وحسن الجوار مع جارتها هو الخيار الاستراتيجي.
الحضور العسكري التركي في القرن الأفريقي آخذ في الازدياد، كلاعب جديد يقدر على مجاراة أميركا والصين وروسيا من جهة ودول المنطقة من جهة ثانية
تمنح رياح عودة العلاقات التركية مع كل من الرياض وأبوظبي والقاهرة لأنقرة مساحة وحرية أكثر للتحرك في المياه الإقليمية في الجنوب الغربي من البحر الأحمر، لكن ما وُصفت بتدخلات أنقرة في الدول العربية، ومن بينها الصومال، في اجتماع وزراء الخارجية العرب أخيرا، يحمل دلالات عدة، مفادها بأن بعض الدول الخليجية ليست راضية عن ارتماء مقديشو بالكامل في أحضان تركيا، من دون أن يتوفّر للصومال بديل استراتيجي أفضل سوى وعود إنسانية ومنح مالية عبر قنوات المنظمات الأممية، فالرئيس الصومالي حسن شيخ محمود زار عواصم خليجية وعربية بعد الأزمة الدبلوماسية مع إثيوبيا، من دون جدوى، بينما سِجلّ الصومال حافل بالوقفات الدبلوماسية مع السعودية ومصر وقطر والإمارات في أزمات دبلوماسية منذ عقود، ولم تُصدر تلك الدول سوى بيانات جماعية تتشابه في محتواها وسياقاتها ضمن إطار اجتماعات جامعة الدول العربية بشأن الأزمة الصومالية الإثيوبية. لكن الاستدارة الصومالية نحو أنقرة وتوقيع اتفاقية تعاون اقتصادية وعسكرية سيعزّزان جهود الصومال للتغلب على التحدّيات الكونية التي يواجهها منذ ثلاثة عقود.
ثمّة من يلّمح إلى أن طابع الاتفاقية الموقعة أخيرا بين تركيا والصومال اقتصادي وليس عسكرياً، وأن تركيا لن تستطيع أن تلعب دور شرطي المنطقة في إقليم مضطرب تعصف به حروب وأزمات إنسانية ومهدّدات أمنية من البحر إلى النهر. وفي المقابل، تبدو أنقرة منخرطة أكثر في الأزمة الصومالية، خصوصاً في جهود مكافحة حركة الشباب الموالية للقاعدة، حيث تشارك مسيّراتها (بيرقدار) في عمليات تحييد عناصر الحركة. وسبق أن شاركت في الحرب الإثيوبية، ورجحت كفّة الجيش الوطني لاحتواء خطر الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، لحماية مصالحها في البلدين. كما أنها وثّقت علاقاتها أكثر مع جيبوتي بتوقيعها اتفاقية عسكرية معها في الشهر الماضي (فبراير/شباط). ولهذا، فإن الحضور العسكري التركي في القرن الأفريقي آخذ في الازدياد، كلاعب جديد يقدر على مجاراة أميركا والصين وروسيا من جهة ودول المنطقة من جهة ثانية.
كان لدى الولايات المتحدة ومنذ الحرب الباردة أطماع تاريخية في استغلال ثروات الصومال النفطية ومعادنه الثمينة
عربياً، يثير ازدياد هذا النفوذ التركي في الصومال شكوكاً وقلقاً بشأن مآلات هذه العلاقة ومدى أن تستغل تركيا إعادة تموضعها في البحر الأحمر، اتّساقاً مع الرؤية الأميركية في مدّ نفوذها السياسي والاقتصادي في الحواضن العربية، خصوصاً مع وجود علاقات استراتيجية تركية مع كل من قطر وليبيا. أضف إلى ذلك الاهتمام التركي في إقامة قاعدة عسكرية في سواكن السودانية، وهو ما يعزّز الحضور التركي على شكل هلالٍ في العمق العربي، من الصومال وجيبوتي مروراً بالسودان ووصولاً إلى ليبيا، في ظل التخبط العربي والفشل الذريع في إيجاد حلول جذرية لأزمات دوله، وحتى فقدان الإرادة والقدرة على منع إسرائيل من وقف إبادتها الجماعية للفلسطينيين في غزّة التي أضحت مذبحة يومية مفتوحة على الهواء.
اختصاراً، ليست تركيا وحدها من يطمح إلى الظفر بثروات الصومال النفطية ومعادنه الثمينة، بل كان لدى الولايات المتحدة ومنذ الحرب الباردة أطماع تاريخية في استغلال تلك الثروة، سواء من خلال نفوذها ووكلائها الإقليميين أو بالشراكة مع مقديشو مباشرة. لكن هذا التدافع الجيوسياسي نحو الصومال يثير شهية بقية الدول، مثل الصين وروسيا، لإيجاد توازنات جديدة في هذه المنطقة، وهو ما يحذّر من اندلاع حرب بالوكالة بين القوة التقليدية والصاعدة والإقليمية في هذه المنطقة، وما تحاول به مقديشو أن تنأى بنفسها عن صراعاتٍ إقليميةٍ تدفع ثمنها فقط شعوب المنطقة، تحتاج سنوات طويلة لتضميد جروحها الغائرة.