تتواصل حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غّزة، من دون أن تلوح بوادر اتفاقٍ لوقف إطلاق النار ووضع حدٍّ للمقتلة المُروّعة الجارية أمام مرأى ومسمع من العالم. ومع حلول شهر رمضان، تزداد الأوضاع الإنسانية تدهوراً أمام خذلان عربي وتواطؤ دولي مكشوفيْن.
بالتوازي، تتسع قاعدة المعارضين للحرب في العالم، في ما يبدو صحوة ضمير عالمية عابرة للحدود. وقد بدأ ذلك يُقلق دوائر القرار في العواصم الغربية الكبرى، ولا سيما التي تُعدُّ معاقلَ تقليديةً للنفوذ السياسي والإعلامي الإسرائيلي. أكثر من ذلك، تشهد مواقف بعض البلدان الغربية تحوّلاً بشأن ما يجرى في غزة. فقد أعلنت بلجيكا، في مُستهل الأسبوع الجاري، نيّتها التدخّل في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزّة. ولا تخلو خطوةٌ كهذه، من دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، من دلالة، ما يؤكد أن ما بعد 7 أكتوبر لن يكون أبداً كما قبله.
على الرغم من ذلك، لا يزال الحراك الشعبي، العربي والدولي، الذي يطالب بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات ورفع الحصار عن غزّة، بعيداً عن مفهوم ”الكتلة الحرجة” التي تفرض إرادتها على القوى الغربية الكبرى الداعمة لإسرائيل وتدفعها إلى الضغط على حكومة نتنياهو لإيقاف حرب الإبادة التي يتعرّض لها المدنيون الأبرياء في غزّة. ومن المعلوم أن ”الكتلة الحرجة” مفهومٌ وافدٌ من الفيزياء النووية، ويحيل، في العلوم الاجتماعية، إلى بلوغ التفاعلات الفكرية والمجتمعية والسياسية حدّاً معيّناً يتيح تشكُّل قوة اجتماعية متجانسة ومؤثرة تكون قادرةً على فرض علاقات قوة جديدة داخل المجتمع. وقياسا بذلك، يمكن القول إن الحراك الشعبي، في الإقليم والعالم، ضد العدوان الإسرائيلي لم يصل بعدُ إلى درجةٍ من التنظيم والتعبئة والتحشيد يصبح معها النظامُ العام مهدّدا، بما يعنيه ذلك من تأثيرٍ على إيقاع الحياة العادية وشلٍّ لحركة الاقتصاد. والواقع أنّ الحديث يطول عن الأسباب العميقة التي تحول دون انتقال هذا الحراك الذي لا ينبغي التقليل من أهميته في إبراز عدالة القضية الفلسطينية إلى ”كتلة حرجة” تربك حسابات إسرائيل والغرب.
أبرز هذه الأسباب نجاح مؤسّسات الدولة العميقة، في بلدان عديدة، في التحكّم في إيقاع الحراك الشعبي، أولاً بإبقاء جزء من الطبقة الوسطى خارج دينامياته اليومية، على اعتبار أن هذه الطبقة، وتحديداً في الغرب، ليست كتلة متجانسة فكرياً وأيديولوجياً، ولا سيما في ما له صلة بمواقفها من المسألة اليهودية والصهيونية ومعاداة السامية والصراع في الشرق الأوسط، وثانياً بتكريس الوعي لديها بالمخاطر التي ينطوي عليها تهديد النظام العام، لما في ذلك من أضرار اقتصادية واجتماعية، ستكون أول من يدفع أثمانها على المدى البعيد. يُضاف إلى ذلك نجاح اللوبي الصهيوني والأوساط المؤيدة لإسرائيل في ثَنْي فئةٍ عريضةٍ من رموز الثقافة والفن والسينما والرياضة عن الانضمام إلى معسكر المناهضين للعدوان الإسرائيلي، وبالتالي التحكّم، نسبيا، في إيقاع الحراك الشعبي حتى لا يصل إلى نقطة اللاعودة، التي تعني، بالضرورة، حدوث تحوّلٍ في مواقف القوى الغربية الكبرى الداعمة لدولة الاحتلال.
يستدعي ما سبق أسئلة من قبيل: هل بمقدور المحتجّين المعارضين للحرب تحمّلَ تكاليف إضراب عالمي شاملِ والنزول إلى الساحات والميادين وتعطيل النظام العام؟ هل في وسع الحركات الاحتجاجية إفراز قيادات حزبية ونقابية وشعبية لديها ما يكفي من الخبرة والتجربة والقدرة على التعبئة لأجل إدارة خياراتٍ راديكالية يتطلبُها ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني على يد آلة القتل الإسرائيلية؟
من الصعب الإجابة عن هذين السؤالين وغيرهما مما تطرحه مأساة غزّة، فليست هناك علاقة سببية، في ما يبدو، بين العدد المهول من الشهداء والجرحى والمشردين واتساع رقعة الحراك الشعبي وازدياد منسوب التعبئة بشأنه، بما يقرّبه أكثر من “الكتلة الحرجة” ويُجبر دول الغرب الكبرى على مراجعة مواقفها المتواطئة مع إسرائيل.