شكلت العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا ضربة قاصمة للعلاقات الروسية- الألمانية، ونقطة تحول جذرية بالنسبة للسلطات الألمانية، التي أصرت تقليدياً على الحياد في العلاقات مع روسيا. فقبل 24 فبراير (شباط) 2022، وعلى رغم دعوات “الغرب الجماعي” لاستبعاد روسيا من المفاوضات الأمنية الأوروبية، أصرت ألمانيا على العكس. وقام كل من مستشار البلاد أولاف شولتز ووزيرة الخارجية أنالينا باربوك بزيارة موسكو. وخلافاً لمواقف زملائهم من ممثلي الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، كانت ألمانيا مستعدة للوعد بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ومراجعة اتفاقيات مينسك.
لكن ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، سارع شولتز ليعلن أمام البوندستاغ أنه سيفعل كل شيء لضمان عدم انتشار الأعمال العدائية إلى الدول الأوروبية، وأعلن عن زيادة في حجم المساعدة لأوكرانيا وشركاء ألمانيا في أوروبا الشرقية، وهدد روسيا بفرض عقوبات صارمة.
وفي غضون أيام قليلة، لم تفرض ألمانيا عقوبات صارمة فحسب، بل قلصت أيضاً أكبر مشروع للطاقة لديها -إطلاق خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2”- وغيرت أيضاً سياستها الدفاعية بشكل جذري، وأدخلت تغييرات جوهرية في سياستها الخارجية والداخلية، جعلتها ليس فقط من أكبر المانحين الأوروبيين المساعدات العسكرية لأوكرانيا، بل ومن أخطر المهددين بالتدخل العسكري المباشر في هذه الحرب، بعد كشف المحادثات التي تم اعتراضها بين كبار الضباط الألمان الذين كانوا يخططون لتدمير جسر القرم بـ20 صاروخاً من طراز “توروس” التي يمكن إطلاقها من مديات بعيدة يمكنها تمويه هوية مطلقها وإبعاده عن الشبهات.
استدارة بزاوية 180 درجة
راهنت روسيا الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومساهمتها الكبيرة في توحيد الألمانيتين وسحب جيشها من ألمانيا الشرقية، على دخول الميدان الأوروبي من البوابة الألمانية، فالعلاقات بين البلدين والشعبين كانت تاريخياً الأقرب والأكثر تأثيراً في الخريطة الأوروبية، على رغم المجابهات بينهما خلال الحربين العالميتين، لذلك كانت أكبر وأقوى المبادلات التجارية والاقتصادية بين روسيا والقارة العجوز تتم عبر ألمانيا، لا سيما موارد الطاقة، إذ إن خطي “نورد ستريم” واحد واثنان كانا يربطان مباشرة الأراضي الروسية بالأراضي الألمانية.
قبل بضعة أسابيع فقط، قال المستشار الألماني إن تغيير سياسة توريد الأسلحة إلى الدول الأخرى سيكون بمثابة تغيير 180 درجة في السياسة الخارجية، ويجب أن يتم ذلك في الوقت المناسب. وأعلنت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا باربوك، “الآن، للأسف، هو الوقت المناسب للقيام بذلك”، موضحة سبب قرار البلاد تقديم المساعدة لأوكرانيا، والتخلي عن مبدأ عدم إرسال الأسلحة إلى مناطق الأزمات.
وبحسب شولتز، فإن رد الفعل هذا من جانب السلطات الألمانية هو “الرد الوحيد الممكن على العدوان الروسي”، وألمانيا مستعدة للقيام بذلك. ووفقاً للمحللين، فإن القرارات الأخيرة تشير إلى تحول جوهري في السياسة الألمانية.
953021-350467906.jpg
صاروخ توروس في أحد معارض الصناعات العسكرية (رويترز)
ويعتقد أن التغيير الرئيس يكمن في النهج المتبع في التعامل مع الأمن الأوروبي. ومن الآن فصاعداً، تدرك السلطات أنها بحاجة إلى استخدام القوة الصارمة لحماية نفسها.
إن كلمات باربوك حول التغييرات الأساسية في السياسة الألمانية وتصميم شولتز على السماح بإمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا دفعت بعض الخبراء إلى الاعتقاد أنه من المتوقع حدوث تغييرات عميقة في سياسة الأسلحة الألمانية.
تقليدياً، حتى تحت تأثير التحديات الكبيرة، تتغير السياسة الألمانية ببطء شديد. علاوة على ذلك، فإن التخلي عن المبادئ التي تقوم عليها النظرة الألمانية للعالم أمر صعب للغاية.
برلين تحيط نفسها بالأصدقاء
في مسيرتها لإعادة الاندماج بالمجتمع الدولي، نبذت ألمانيا القوة الصارمة، إدراكاً منها لذنبها التاريخي، فأصبح مفتاح الأمن الأوروبي في أذهان السلطات هو المفاوضات السرية. وقال مستشار السياسة الخارجية السابق للمستشار الألماني مايكل شتاينر في عام 1999 “منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أرادت ألمانيا دائماً أن تكون محاطة بالأصدقاء وليس بالأعداء”. كانت هذه الصيغة هي التي شكلت لفترة طويلة أساس السياسة الخارجية الألمانية.
عالم السياسة ورئيس جمعية بسمارك في موسكو، ميخائيل غولوفانوف، اعتبر أن هذا النهج يرجع إلى حقيقة أنه بعد سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا في عام 1990، بدا للألمان أن عصر المواجهة في أوروبا قد انتهى وأن “نهاية” الحرب الباردة نهائية ولا رجعة إليها.
وبينما كانت ألمانيا تستوعب المناطق الشرقية من البلاد، شعرت بالأمان تحت مظلة الناتو.
AFP__20230717__33P984L__v2__Preview__TopshotCrimeaRussiaUkraineConflict.jpg
صورة بالأقمار الاصطناعية تظهر الأضرار على الجسر الرئيس بشبه جزيرة القرم (أ ف ب)
وإضافة إلى ذلك، تكمن المفارقة في أن انهيار الاتحاد السوفياتي بالتزامن مع توحيد ألمانيا أصبح تحدياً سمح للسياسيين الألمان بالعمل على نطاق أوروبي شامل. وأكدت ألمانيا نفسها خلال الحرب في يوغوسلافيا، حيث استخدم الجيش الألماني قواته للمرة الأولى، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبحت ألمانيا “راعية للديمقراطية” في بلدان الكتلة الشرقية السابقة، إذ لعبت أيضاً دور الراعي للانتقال إلى اقتصاد السوق، ففي التسعينيات، أقامت بشكل مكثف شراكات اقتصادية مع الجمهوريات السوفياتية السابقة وروسيا، وتم جذب الاستثمارات إلى هناك، وكان هناك تعاون مثمر في السياسة الخارجية.
فبعد انتهاء الحرب الباردة، كانت السلطات الألمانية تأمل في التخلي عن الألعاب الجيوسياسية إلى الأبد. لم يكن شتاينر وحده، بل أيضاً سياسيون ألمان آخرون في ذلك الوقت، يعتقدون بصدق أن المستقبل يكمن في التعاون وتعزيز المجتمع المدني وحل النزاعات القديمة.
التوجه نحو أميركا
لكن هذا التوجه الألماني للصداقة مع الجميع لم يدم طويلاً، بل برز اتجاه آخر منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وهو توجه ألمانيا نحو سياسة الولايات المتحدة داخل الناتو، والاعتماد على مظلتها النووية لحماية نفسها، فكلما كانت برلين تقترب من واشنطن خطوة واحدة، كانت تبتعد من موسكو خطوتين، والأزمة الأخيرة في العلاقات الروسية- الألمانية تظهر الآن أن لدى البيت الأبيض أكثر من سبب لتعزيز التعاون مع ألمانيا أولها احتواء روسيا.
لقد أدى الصراع في أوكرانيا مرة أخرى إلى توحيد ألمانيا والولايات المتحدة في مواجهة التهديد الروسي. على هذه الخلفية، تلاشت كل التناقضات، وتم نسيان الهجمات المناهضة لأميركا في عهد ترمب، ويمكننا الحديث عن الاستعادة الكاملة لموقف اللوبي الأطلسي.
ويدعم مثل هذه الحجج قرار الحكومة الألمانية شراء مقاتلات جديدة من الجيل الخامس من طراز “أف-35” من الأميركيين، ومنع تشغيل خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2″، الذي تسبب تشييده منذ فترة طويلة في إثارة غضب البيت الأبيض.
وتوج الفراق الألماني مع روسيا والتقارب مع الولايات المتحدة، بفضيحة تسريب مناقشات بين كبار الضباط الألمان حول كيفية ضرب جسر القرم الذي يعتبر الجسر الأكثر أهمية وحيوية لموسكو، بواسطة صواريخ “توروس” الألمانية البعيدة المدى والدقيقة التصويب.
تعليق بوتين والقادة الروس
تهدف تكهنات الضباط الألمان حول الهجمات المحتملة على جسر القرم إلى تخويف روسيا، لكنها ليست أكثر من مجرد خيال. صرح بذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقابلة مع ديمتري كيسيليف لقناة “روسيا 1” ووكالة “ريا نوفوستي” يوم 12 مارس (آذار) الجاري.
وكما أشار الرئيس الروسي، فإن ضباط الجيش الألماني، من خلال مثل هذه المحادثات، “يتخيلون، ويشجعون أنفسهم، أولاً”، وأيضاً “يحاولون ترهيبنا”.
ومع ذلك، اعتبر بوتين الذي عمل قائداً لجهاز استخبارات “كي جي بي” في ألمانيا الشرقية سابقاً، أن مثل هذه الضربات محظورة في الواقع بموجب القانون الألماني. وقال “يقولون بشكل صحيح: إذا انتهى الأمر بهؤلاء في ذلك الجزء من جسر القرم، والذي، بالطبع، حتى وفقاً لمفاهيمهم، هو أراض روسية، فهذا انتهاك لدستور جمهورية ألمانيا الاتحادية”.
أما نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، فقال “سوف تتذكر روسيا حادثة تسريب المفاوضات بين كبار الضباط الألمان الذين ناقشوا الضربات على جسر القرم، لكنها ستمارس ضبط النفس”.
953286-2124986989.png
التسريبات الألمانية أثارت ضجة كبيرة وأحرجت أطرافا عدة (اندبندنت عربية)
وأضاف “ماذا رأينا وسمعنا؟ مناقشات حول كيفية القتال مع روسيا خلف ظهر شخص آخر وتدمير منشآتنا المدنية التي يستخدمها كثير من الناس. وهم يناقشون كل هذا بنظرة باردة، لأنهم بحاجة إليه الآن، ويجب القيام به بطريقة لا تبرز رؤوسهم”.
وقال ديمتري بيسكوف المتحدث باسم بوتين إن التسجيل أظهر القوات المسلحة الألمانية وهي تناقش خططاً لضرب الأراضي الروسية. واعتبر أن التسريب “يؤكد مرة أخرى التورط المباشر لدول ما يسمى الغرب الجماعي في الصراع حول أوكرانيا”.
ودعت الممثلة الرسمية للخارجية الروسية ماريا زاخاروفا برلين إلى تحمل المسؤولية وإجراء تحقيق في الوضع مع تسريب المفاوضات بين الضباط.
وقالت “نرى هذا الموقف عندما يخرجون، يرفعون أيديهم، ويقولون شيئاً سخيفاً، ويتمتمون بشيء ما، ويقولون: نحن بحاجة إلى معرفة ذلك. ليس من الضروري أن نفهمهم، بل أن نكون مسؤولين عما فعلوه”.
وبعد ذلك، أعلن عن استدعاء السفير الألماني في موسكو ألكسندر لامبسدورف إلى الخارجية الروسية التي طلبت منه توضيحاً في ما يتعلق بتسريب المحادثة بين الضباط الألمان. وأكدت وزارة الخارجية الروسية أن تقديم المساعدة العملية للجيش الأوكراني في الهجمات على روسيا يشير إلى تورط الغرب بالصراع في أوكرانيا.
في 12 مارس، تبنى نواب مجلس النواب الروسي (الدوما) بالإجماع نداءً إلى البوندستاغ، دعوا فيه زملاءهم الألمان إلى إجراء تحقيق موضوعي في مشاركة جنود الجيش الألماني في الأعمال العدائية على أراضي أوكرانيا. وحذر رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين، في تعليقه على المفاوضات بين الضباط الألمان حول ضربة محتملة على جسر القرم، من أن هذا قد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة.
وبدوره، أورد مجلس الاتحاد الروسي (مجلس الشيوخ) إشارتين مثيرتين للقلق بعد تسريب هذه المحادثة بين الضباط الألمان. فأعرب السيناتور أليكسي بوشكوف عن اعتقاده أن قرار تزويد أوكرانيا بصواريخ “توروس” الألمانية سيتم اتخاذه عاجلاً أم آجلاً في النهاية، على رغم الموقف الحالي للمستشار أولاف شولتز، إضافة إلى ذلك، ترى الأوساط العسكرية الألمانية أن ألمانيا في حالة حرب افتراضية مع روسيا، وفقاً لما صرحت به وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا باربوك.
التدخل السري المباشر لقوات الناتو في أوكرانيا
عالم السياسة الألماني، ريتشارد فيرنر، اعتبر في محادثة مع صحيفة “إزفستيا” الروسية يوم 6 مارس أن “المحادثة المسربة بين ضباط ألمان حول هجوم محتمل على جسر القرم تؤكد تصرفات القوات المسلحة الأميركية في أوكرانيا، وهذا يعرض العالم لخطر حرب نووية”.
وأضاف “هناك عدد من الأشياء المروعة. أولاً: يؤكدون تدخل القوات الأميركية في أوكرانيا. تماماً مثل البريطانيين والفرنسيين وحتى الألمان. والجميع يأخذ ذلك على محمل الجد. إنهم يساعدون أوكرانيا في مهام خاصة ضد روسيا، على سبيل المثال، بتفجير جسر القرم، وهذا أمر مخيف للغاية، لأنه يجب أن نتذكر: أوكرانيا ليست عضواً في الناتو”.
وتساءل فيرنر عن سبب مساعدة أوكرانيا على مهاجمة روسيا إذا كانت تعرض العالم لخطر حرب نووية؟ لا سيما أن عدم جواز الحرب منصوص عليه أيضاً في الاتفاقية الدولية الموقعة في عام 1991 من قبل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي وفرنسا وبريطانيا وألمانيا الشرقية وألمانيا.
وأضاف، “ما يفعلونه يعرض هذا الاتفاق للخطر، وهذا أمر سيئ للغاية. ومن الجيد أننا سمعنا هذا. يجب أن يعرف العالم عن مثل هذه الأشياء. نحن بحاجة إلى مفاوضات سلمية، والعالم كله يحتاج إليها”.
XBMKPKURQNKEXPQD6VK6MIZ4KU.jpg
المستشار الألماني أولاف شولتز وعد بإجراء تحقيق لمعرفة كيفية حدوث التسريب (رويترز)
وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي: “إننا نعمل جميعاً معاً لمحاولة دعم أوكرانيا، وكان الألمان على حق تماماً. نحن نتطلع إلى مواصلة العمل مع المستشار شولتز وحكومته بينما يواصلون إيجاد طرق لدعم أوكرانيا”.
وفي ألمانيا، سميت المحادثة المسربة بحرب معلومات تشنها روسيا.
وفي 3 مارس، ربط وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس نشر محادثات عسكرية حول الهجوم على جسر شبه جزيرة القرم بحرب المعلومات التي تشنها روسيا. وأكد الوزير أن المحادثة لا تعني إمكانية تزويد أوكرانيا بصواريخ “توروس”، على رغم أن الضباط تحدثوا عن ضربة محتملة على جسر القرم بهذا السلاح بالتحديد.
وأشار وزير الدفاع الألماني، إلى اتصال أحد المشاركين عبر اتصال غير آمن كسبب للتسرب. وقال إنه بعد الحادثة أجرى مفاوضات مع حلفائه أكدت أن الثقة في ألمانيا لم تتزعزع.
ووصف الحادثة بأنها “جزء من حرب بوتين الإعلامية”، مؤكداً أن الجيش في التسجيل “ناقش سيناريوهات مختلفة” وكلماتهم لا تعني على الإطلاق أنه تم إعطاء الضوء الأخضر لتسليم شحنات “توروس” إلى أوكرانيا.
بدوره، اتهم وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر موسكو بشن هجوم مختلط وأشار إلى أن المعلومات المهمة مفقودة من المحادثات المنشورة.
في الوقت نفسه، أعرب نائب البوندستاغ عن حزب الخضر، أنطون هوفريتر، عن قناعته بأن تسجيل محادثة الجيش الألماني تم نشره لتعطيل إمداد كييف بهذه الصواريخ الفعالة.
مفارقات
من المفارقات الغريبة، أن تسريب هذه المحادثة لم يكن فقط القطرة التي طفح بها كيل العلاقات الروسية- الألمانية، بل من المرجح أن يؤدي إلى تعقيد العلاقات بين ألمانيا وحلفائها في حلف شمال الأطلسي، بحسب ما رأى صحافيون من صحيفة “وول ستريت جورنال” هذا الأسبوع.
وأشار كاتبو المقال إلى أن “تسرب المعلومات أثار غضباً في ألمانيا وقد يؤدي إلى توتر العلاقات مع حلفاء برلين في حلف شمال الأطلسي”.
وعزوا ذلك إلى أنه في المحادثة التي تم اعتراضها، كشف الجيش عن “أن ممثلين عن فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا موجودون بالفعل في أوكرانيا لصيانة المعدات العسكرية التي قدمتها هذه الدول”. وذكر الصحافيون الأميركيون أن الولايات المتحدة نفسها تنكر هذه الحقيقة.
وفي ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا، يواصلون مناقشة عواقب تسريب المحادثة بين ضباط رفيعي المستوى في القوات المسلحة الألمانية، التي جرى خلالها الحديث عن احتمال وقوع هجمات صاروخية على جسر كيرتش في شبه جزيرة القرم. وتفاصيل تدريب الجيش الأوكراني ووجود القوات العسكرية الغربية على أراضي أوكرانيا.
ولفترة طويلة، أنكرت كل من واشنطن ولندن الوجود الدائم لجيشهما في منطقة الصراع. والثلاثاء الماضي، أكدت بريطانيا للمرة الأولى وجود “عدد صغير من العسكريين” في أوكرانيا، على رغم أنها لم تحدد المهام التي كانوا يؤدونها.
ففي صباح الأول من مارس، قالت رئيسة تحرير قناة “آر تي” الروسية الحكومية، مارغريتا سيمونيان، إنها حصلت على تسجيل صوتي لمحادثة بين ضباط رفيعي المستوى في القوات المسلحة الألمانية، ناقشوا خلالها كيف “سيقصفون جسر القرم” وكيفية القيام بذلك حتى “يتمكن شولتز من الاستمرار في القول إن كوخه على الحافة”.
ونشرت سيمونيان لاحقاً تسجيلاً مدته 38 دقيقة للمحادثة باللغة الألمانية وترجمتها المكتوبة إلى الروسية. وبحسب قناة “آر تي”، فإن المحادثة التي جرت في 19 فبراير، شملت رئيس قسم العمليات والتمارين في قيادة القوات الجوية الألمانية فرانك غريفي، ومفتش القوات المسلحة الألمانية إنغو غيرهارتز، وموظفين لم تذكر أسماؤهم في مركز العمليات الجوية لقيادة الفضاء الألماني.
ناقش المحاورون الإطار الزمني الذي سيكون من الممكن فيه تسليم صواريخ “توروس” إلى أوكرانيا إذا اتخذ المستشار الألماني أولاف شولتز مثل هذا القرار، وأين سيتم تدريب رجال المدفعية الأوكرانيين وكيف سيشارك ممثلو القوات المسلحة الألمانية في ذلك.
تشير المحادثة أيضاً إلى عدد من الأهداف التي قد تقرر كييف مهاجمتها بصواريخ “توروس”، بما في ذلك مستودعات الذخيرة و”جسر في الشرق”.
إن حقيقة إعلان روسيا عن وجود مثل هذا الاعتراض قد تبدو غير متوقعة، ففي حالة الاختراق الناجح لأنظمة اتصالات الخصم، تفضل وكالات الاستخبارات حول العالم عادة إخفاءه من أجل الحفاظ على الوصول إلى المعلومات لأطول فترة ممكنة.
ولكن لكل حالة محددة خصوصيتها، والأمر كله يتعلق بالتفاصيل.
أولا، استناداً إلى المعلومات الصادرة، سقطت المحادثة حول أنظمة صواريخ “توروس” في أيدي الروس ليس بفضل بعض العملاء، لكن من خلال تجاوز التشفير البسيط لمنصة الاجتماعات عبر الإنترنت WebEx. ولذلك فإن نشر هذه المعلومات لا يعرض حياة جواسيس الكرملين في الخارج للخطر. وهذا عامل مهم للغاية.
ثانياً، في بعض الأحيان قد تفوق فوائد نشر الاعتراض فوائد الحفاظ على مصدر المعلومات. على سبيل المثال، في الحالات التي سيتم فيها حظر الوصول قريباً بسبب التحديث الإلزامي لبروتوكول التشفير والبرمجيات وتغيير كلمة المرور المعترضة وما إلى ذلك.
صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” الروسية الموالية للكرملين، اعتبرت أن نشر التنصت يشير إلى “حقيقة أن برلين كانت قريبة جداً من الاتفاق على توريد صواريخ “توروس” بعيدة المدى سراً إلى أوكرانيا. ليس على مستوى الإدارة الوسطى، بل على أعلى مستوى سياسي. وفي اللحظة الأخيرة، هزت الاستخبارات الروسية إصبعها بوجه الألمان”.
التسريب يثير النقاشات في كل الاتجاهات
وصفت كل من برلين ولندن بالفعل المنشور الروسي بأنه جزء من “الحملة الإعلامية التي يشنها الكرملين لزعزعة الاستقرار”. لقد أثارت المحادثة التي تم اعتراضها بالفعل كثيراً من النقاش، سواء داخل ألمانيا أو بين برلين وحلفائها.
ووصف نائب وزير الدفاع البريطاني السابق توبياس إلوود، في مقابلة مع “بي بي سي” تسرب البيانات بأنه “وصمة عار على برلين”.
وأضاف، “نحن بحاجة إلى إجراء محادثات جادة في الدوائر الدبلوماسية بين ألمانيا والمملكة المتحدة، وكذلك الناتو، حول أسباب هذا الوضع”.
وحذر وزير الدفاع الألماني من أن تحليل تداعيات التسريب قد يؤدي إلى انقسام في المجتمع الألماني. وقال “هذا يتعلق بتقويض وحدتنا”. وشدد بيستوريوس على أنه “بناء على ذلك، يجب علينا الرد على ذلك بحذر شديد، ولكن ليس أقل حسماً”. وشدد على ضرورة “عدم الوقوع في طعم بوتين” وأعرب عن أمله في ألا يتمكن الكرملين من تقسيم الألمان.
ما الذي يحدث الآن مع الحديث عن إمكانية تزويد أوكرانيا بصواريخ “توروس”؟ تشبه صواريخ كروز هذه صواريخ “ستورم شادو” وصواريخ “سكالب “التي تم توفيرها بالفعل إلى كييف، ولكن -على عكسها- يمكنها ضرب أهداف من مسافة مضاعفة. وتعتبر هذه الصواريخ فعالة بشكل خاص في تدمير الأهداف ذات الأهمية الاستراتيجية العالية -الجسور الكبيرة والمطارات والمخابئ التي تحتوي على مراكز القيادة الرئيسة لجيش العدو ومستودعات الأسلحة والمواقع الصناعية.
وقد عارض المستشار الألماني أولاف شولتز مراراً وتكراراً نقل “توروس” إلى أوكرانيا، لأنه يعتبر أن السيطرة على استخدام صواريخ “توروس” ستتطلب إرسال عسكريين ألمان إلى أوكرانيا، لكن هذه الخطوة غير مقبولة بالنسبة إليه.
وصرح شولتز مراراً وتكراراً أنه يخشى أن تنجر ألمانيا إلى مواجهة مباشرة مع روسيا.
مشكلة خطيرة جداً
وقالت صحيفة “هاندلسبلات” الألمانية في مقال مخصص للإثارة الرئيسة التي حدثت بعد نشر هذا التسريب: “إن برلين السياسية منزعجة للغاية”. فيما عرضت وسائل إعلام ألمانية أخرى الموضوع بطريقة أكثر عاطفية: “عار آخر: فشل عملية توروس” و”روسيا تكشف محادثة عسكرية متفجرة حول توروس”. وقالت “أي آر دي”: “التشكيك في سلطة المستشار”، أما “بيلد” فعلقت قائلة “خطأ لا يصدق من قبل الجيش الألماني”.
وكان على المستشار الألماني أولاف شولتز التعليق على الحادثة، ووصفها بأنها “مشكلة خطيرة للغاية”. ووعد بالتحقيق في الأمر “بعناية شديدة ومكثفة للغاية وبسرعة كبيرة”.
وحتى قبل ذلك، أكدت وزارة الدفاع الألمانية للصحافيين أن “المحادثة في سلاح الجو تم اعتراضها” وأن التسجيل الصوتي المنشور على الإنترنت حقيقي (ولم يتم إنشاؤه، على سبيل المثال، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي). وبدأ المكتب الاتحادي للاستخبارات العسكرية المضادة تحقيقاً في الحادثة. في الوقت نفسه، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام الألمانية، سيتم إجراء الفحص ليس فقط في القوات الجوية، لكن أيضاً في وزارة الدفاع بأكملها، وكذلك في وكالات إنفاذ القانون الأخرى في جمهورية ألمانيا الاتحادية، والتي تخشى الاستخبارات العسكرية الألمانية أن يتم استغلالها من قبل أجهزة الاستخبارات الروسية.
وإضافة إلى ذلك، يطالب البوندستاغ بتشكيل لجنة خاصة للتحقيق في الحادثة. ويشعر النواب بالقلق إزاء قضيتين رئيستين.
الأولى تثير قلق السياسيين من أحزاب الائتلاف الحاكم والمعارضة: كيف يمكن لروسيا اعتراض محادثة بين كبار العسكريين الألمان حول قضايا حساسة للغاية وما الذي يجب فعله لمنع حدوث ذلك مرة أخرى؟
والثانية، كيف أصبح اعتراض الاتصالات العسكرية الألمانية ممكنا؟.
وقال كونستانتين فون نوتز (حزب الخضر، جزء من الائتلاف الحاكم)، ورئيس لجنة البوندستاغ لمراقبة أنشطة أجهزة الاستخبارات “السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان هذا حادثاً معزولاً أم مشكلة أمنية هيكلية”.
وأعلنت رئيسة لجنة الدفاع في البوندستاغ ماري أغنيس ستراك زيمرمان، (الحزب الديمقراطي الحر، وهو أيضاً جزء من الائتلاف الحاكم): “نحن بحاجة ماسة إلى تعزيز أمننا واستخباراتنا المضادة، لأننا معرضون للخطر بشكل واضح في هذا المجال”.
كما تصر المعارضة البرلمانية على إجراء تحقيق شامل في ملابسات الحادثة. وقال نوربرت روتجن، المتحدث باسم السياسة الخارجية للاتحاد الديمقراطي المسيحي، لمجموعة “فونكي” الإعلامية: “من الضروري أن نوضح بأسرع ما يمكن ما هي الإجراءات الأمنية التي تم اتباعها أو لم يتم اتباعها أثناء تسريب المحادثة”.
ويعترف الخبراء الذين قابلهم الصحافيون الألمان بوجود عديد من الخيارات لتسريب المحادثة: اختراق WebEx، واعتراض اتصالات الهاتف المحمول، والتنصت على المباني التي يوجد فيها الضباط، وعمل شخص لمصلحة روسيا من داخل القوات الجوية الألمانية.
ماذا كشف تسريب محادثة العسكريين الألمان؟
استناداً إلى محتوى المحادثة، كان الضباط الكبار يعدون إحاطة في شأن صواريخ “توروس” لوزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، لكن هناك عديداً من المعلومات الرئيسة السرية في محادثتهم.
أولاً، يعتبرون أنفسهم مشاركين في الصراع، فيقولون “نحن الآن نخوض جزئياً حرباً تستخدم تكنولوجيا أكثر حداثة بكثير من قوتنا الجوية القديمة الجيدة”.
ثانياً، إنهم يعرفون بوجود أفراد عسكريين بريطانيين وأميركيين على الأراضي الأوكرانية. أعرف كيف يفعل البريطانيون “يسلمون صواريخ ستروم شادو الخاصة بهم. إنهم ينقلونها دائماً في مركبات Ridgeback المدرعة. لديهم عديد من الأشخاص على الأرض”.
ثالثاً، يعتقدون أن الأوكرانيين يمكنهم صيانة صواريخ “توروس” من دون وجود متخصصين ألمان في أوكرانيا – بأنفسهم أو بمساعدة البريطانيين والأميركيين. سؤال: “من الممكن جداً أن يتمكنوا قريباً (الأوكرانيون من استخدامها بأنفسهم؟ بعد كل شيء، لديهم جميع صور الأقمار الاصطناعية”. الإجابة: “نعم. إنهم يتلقونها منا”. “يمكننا كذلك تدريبهم (الأوكرانيين) لمدة شهرين، خلال هذا الوقت لن يتعلموا كل شيء، لكنهم سيكونون قادرين على فعل شيء ما. علينا فقط التأكد من أنهم قادرون على معالجة جميع المعلومات”.
رابعاً، يستكشف الضباط الألمان إمكانية مساعدة القوات المسلحة الأوكرانية في الحفاظ على “توروس”، لكن بطريقة تتجنب اللوم العلني لإشراك ألمانيا في الصراع. قد يشعر السياسيون بالقلق إزاء الاتصال المباشر المغلق بين (القواعد الجوية الألمانية وأوكرانيا، والذي يمكن أن يصبح مشاركة مباشرة في الصراع الأوكراني)، لكن في هذه الحالة، يمكننا القول إن تبادل المعلومات سيتم من خلال (الشركة المصنعة لصواريخ توروس) MBDA، وسنرسل واحداً أو اثنين من المتخصصين لدينا إلى مقرها في مدينة شروبنهاوزن. بالطبع هذه خدعة، لكن من وجهة نظر سياسية قد يبدو الأمر مختلفاً. إذا حدث تبادل المعلومات من خلال الشركة المصنعة، فلن يكون مرتبطاً بنا.
وأخيراً، خامساً، درست القوات الجوية الألمانية إمكانية تفجير جسر القرم بمساعدة صواريخ “توروس” وتوصلت إلى استنتاج مفاده أن هذا من غير المرجح أن ينجح، إذ يقول موظف في مركز العمليات الجوية التابع للقيادة الفضائية للجيش الألماني يدعى فينسكي في التسريب “أود أن أقول شيئاً آخر عن تدمير الجسر. لقد درسنا هذه المشكلة بشكل مكثف، ولسوء الحظ، توصلنا إلى استنتاج مفاده أنه يمكننا ضرب الجسر إذا استخدمت مقاتلة “داسو رافال” الفرنسية، لكن صواريخنا لن تتمكن إلا من إحداث ثقب وإتلاف الجسر وليس تدميره” بالكامل.
خلاصة
صورة العلاقات الروسية- الألمانية في المرحلة الحالية تبدو قاتمة وحالكة منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فقد اختار الجانب الألماني التخلي عن الحوار والاعتماد على إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا، ودمر بشكل استباقي الأسس الاقتصادية للعلاقات بين البلدين، وتوقف عن المشاركة في التنسيقات والمشاريع المشتركة والمبادرات، بما في ذلك في مجال العلوم والثقافة والشباب والتبادلات بين الأقاليم. ويتم تقديم دعم واسع النطاق لنظام كييف، بما في ذلك الأسلحة الحديثة والمعدات العسكرية، وكشف تسريب محادثة الضباط الألمان إلى أي حد يمكن لبرلين أن تذهب في مواجهة موسكو، ولهذا الغرض، تم تغيير الممارسة التي استمرت لعقود من الزمن المتمثلة في رفض ألمانيا توريد المنتجات العسكرية إلى مناطق النزاع. ويبدو أن سياسة المصالحة بعد الحرب بين شعوب البلدين تتآكل بوتيرة سريعة قد تصل بها إلى حد التدمير الكامل.